قدرة الدماغ المعجزة

كيف نفكّر؟ وما العملية الغامضة التي تتدخّل في العقل؟ للحصول على فكرة تقريبيّة عمّا يحدث باستمرار في المخ والنخاع الشوكي، ينبغي تصوّر العديد من أجهزة الكومبيوتر العملاقة التي تتلقّى وترسل بأقصى سرعة، طلبات وأسئلة وأوامر.

عبر قدرته المذهلة على الاتصال بآلاف الدارات الرنّانة في جزء من الثانية، وإذ تمثّل كلّ دارة ذكرى أو فكرة، يستطيع الدماغ أن يجمع كميّة كبيرة من البيانات اللازمة للتفكير واتخاذ القرارات.

ويثق كثير من المختصّين بأنّ تلك الدارات الكهربائيّة تسجّل وتحفظ كلّ تجربة من تجارب الحياة، حتّى الملايين من التجارب المُفترض أنّها نُسيت بالكامل. وهناك نظرية تقول بأنّ كلّ ذكرى تأخذ شكل دارة مغلقة، أي أنّ التحريض الكهربائي يدور باستمرار عبر مجموعة محدّدة من الخلايا طوال الحياة.

ونظراً لأنّ الحواس ترسل تقارير تلقائية ومستمرة بما يراه المرء أو يلمسه أو يسمعه أو يشمّه أو يتذوّقه، فإنّ فيض المشاعر كان ليصبح ساحقاً لو لم تكن هناك وسيلة لحذفها جزئياً. وخير مثال على آلية الحماية هذه هو شبكيّة العين التي فيها ما يقارب مئة مليون خلية حساسة للضوء وقادرة على نقل الانطباعات. لكن ثمّة مليون ليف بصري فقط يصل إلى المخ. وبهذه الطريقة لا يصل إلى المخ سوى الانطباع الذي لديه من القوّة ما يكفي لتحريض ما لا يقلّ عن 100 خليّة.

إنّ فعلاً منعكساً، كتقلّص القدم حين دغدغة أخمصها، يمكن أن يتوجّه من تلقاء ذاته عبر النخاع الشوكي. بالمقابل، فإنّ المخ بغطائه من المادة الرماديّة، هو موضع الوعي والذاكرة والعقل، وباختصار، إنّه موضع الشخصية الإنسانيّة. وينظّم المخيخ فعل العضلات الإرادي، بأمر من المخ جزئياً.

بأمر من المخيخ، يختبئ الشخص على نحو أفضل تحت البطانية في ليلة باردة، لكن قد تذهب الرسالة إلى المخّ أيضاً وتجعل النائم يحلم بالقطب الجنوبي. 

وتحذّر إشارة هامة، مثل رائحة الدخان ليلاً، جميع مراكز النقل، وتجعل الدارات الكهربائية تعمل بوتيرة حيوية جداً وتدفع إلى الفعل الواعي.

ويمكن للأفعال التي تحتاج إلى كثير من الانتباه الواعي في أوّل مرّة تُنفّذ فيها، أن تتحوّل لاحقاً إلى جزء الدماغ الذي يعمل على مستوى أدنى، أقلّ وعياً. فركوب الدراجة والسباحة وأفعال المهارة الأخرى التي تتطلّب في البداية تفكيراً ونشاطاً دماغياً، تتحوّل تدريجياً إلى أفعال تلقائية أو انعكاسيّة. كما يتمّ تعلّم إبعاد الرسائل غير المرغوب فيها التي تتكرّر مرّات كثيرة، عن الوعي. وهكذا فإنّ شخصاً من سكّان المدينة ينام وسط ضجيج حركة المرور، لكنّ صياح ديك بعيد في الريف يوقظه.

لكن متى يشيخ المرء كثيراً فلا يعود قادراً على التعلّم؟ أبداً. فالتعلّم مرتبط بالقدرة على خلق دارات كهربائية رنّانة في المخ، وما دامت تلك الملَكة محفوظة يمكن للشخص الاستمرار في اكتساب معارف جديدة حتّى في التسعين عاماً أو أكثر.

ما السبب في الاضطرابات العقلية؟ في التخلّف العقلي كما في بعض أنواع الخرف، يوجد اعتلال في الخلايا الدماغية نفسها أو في عملياتها الكهربائية. وبالتأكيد فإنّ القلق المفرط والغضب غير العقلاني والحالات النفسية اللا عقلانية الأخرى هي نتيجة دارات كهربائية فقدت مجالها. وتبدو بعض الأمراض العقلية مرتبطة بعدم القدرة على جمع عدد كبير كفاية من دارات المخّ الكهربائية الرنّانة.

ما الذي يشكّل العبقرية؟ يفترض ذلك أن يمتلك الشخص العالي الموهبة قدرة فطرية  ما على تنسيق داراته الكهربائية تنسيقاً جيداً على نحو استثنائي. وهذا أمر صحيح تماماً. فكلّما تعلّم المرء ازداد مخزون الذكريات المتوفرة لديه. وكلّما مورست وظيفة التأليف بين مئات الدارات من أجل تشكيل دارات أخرى أكبر، بات التشكيل أسهل وصارت تلك الدارات أوسع.

يمكننا أن نفترض أن ليست حالة الدماغ الحاليّة أكثر من مرحلة انتقالية نحو شيء مختلف، ويمكن الوثوق بأنّ هذا الشيء سيكون أفضل. فهل يمكننا تخيّل احتمال أكثر إثارة للبشريّة؟

 

عن (Globedia)

العدد 1104 - 24/4/2024