المساءلة الثورية

ها هي ذي الجماهير الخانعة تتحول إلى قوى ثورية فعلية، لا يشك في ذلك إلا جاحد أو مكابر. فتصنع المعجزات، ما أثار المواطن التونسي: أحمد الحملاوي، فيقول وهو يمسح رأسه الأشيب: (لقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة). لقد تحولت الجماهير إلى قوى ثورية عفوية، أي دون حزب قائد ونظرية ثورية، وكأنها تقول للأحزاب والتنظيمات والقيادات السياسية والثقافية: إنكم مجبولون بالخنوع وكثرة الجعجعة وضعف الفاعلية، ما جعل قياداتكم ساقطة، بالتالي باشر الشعب حراكه بنفسه صانعاً قياداته في الميدان بعد أن مل الانتظار.

هذا الواقع أتاح للإسلاميين الذين لم يكونوا يوماً قوى ثورية -لأن القوى الثورية قوى تقدمية، بينما القوى الدينية رجعية سلفية- أتاح لهم هذا الفراغ- وهم المنظمون جيداً- الانقضاض على الثورة، مستفيدين من استغلال مشاعر الجماهير التي لا تزال على فطرتها في التوجه إلى السماء عندما تضيق بها الأمور، وتستجيب لأي نداء إيماني دون حساب ولا تدقيق فيما إذا كان لصالحها أو لم يكن كذلك، وهذا التدين الفطري، جعل المؤمنين البسطاء، وهم الأغلبية في هذا الحقل، ينصاعون لهذه القوى من جديد، لأن أملهم بفرج السماء متجدد دائماً، يتجاوز الإخفاقات.

عندما نقول: إن من يتصدى لقيادة التحركات الشعبية يجب أن يكون موضع مساءلة، وحاضراً لذلك، مع القناعة أن فعلاً ثورياً خالياً من العيوب هو ضرب من الخيال، لكن الأخطاء تختلف، فمنها البسيط ومنها القاتل، كما أننا يجب أن نفرق بين ما هو خطأ، وماهو فعل مقصود ومخطط له.

لعل أول الأخطاء التي تجب المساءلة حولها، هي السماح لقوى أثبتت عجزها التاريخي عن التقدم بالعودة إلى الواجهة بعد فشلها المتكرر، وقطف ثمار القوى الأخرى ونضالاتها، إن حقها في المواطنية لا يجعلنا نغفل عن حضورها الدائم عبر التاريخ بقوة، ومع ذلك يتردى واقعنا إلى هذا الحد المرعب. فكيف يكون هؤلاء سبب الداء ثم يكونون الأطباء والدواء؟!

لقد فقدت هذه القوى طاقتها على التقدم، واحتفظت بقدرات خارقة على الإمساك بالواقع المتخلف واستدامته، وإغراق المجتمعات الإسلامية في مستنقعات القدر، الذي لا يعني عندها إلا الواقع المعيش والمتخلف الذي يقوده رجال الدين. علماً أن مجتمعاتنا، بعيداً عنهم، لم تفرط بإيمانها، ولم تكن يوماً بحاجة إلى تنظيمات سياسية دينية لترشدها كيف تمارس شعائرها الدينية وتكون مؤمنة حقيقة. إن وجود هذه التنظيمات دليل ضعف ثقتها بإيمان المؤمنين الذين تتوهم أنهم يحتاجون إليها ليهتدوا، كما هو دليل على أطماع هذه التنظيمات في الزعامة. ومن المؤسف أن تكون القوى الاستعمارية هي التي أوجدتها كما يؤكد جورج قرم في كتابه (انفجار المشرق العربي). حول الإخوان المسلمين.

إن انقضاض الحركات الإسلامية في تونس ومصر على الثورات، والانخراط بها بعدما بدأت بوادر نجاحها، مستعينة بتنظيمها مقابل عفوية القوى الثورية الأخرى، أتاح لها بعد وقت قصير أن تتزعم الحراك، مستعينة بمشاعر المؤمنين البسطاء المستجيبة لهم في الانتخابات. إذ قبضوا باسم الله على الحراك السياسي وعلى تنظيم المجتمع بالطريقة التي تجعل لها الكلمة الأولى، وهو أول معالم فشل المعاني الثورية للحراك، إذ بقيت القوى الثورية الحقيقية مهمشة تناضل لتسمع صوتها ولتظهر هي الخائرة الضعيفة، ما يجعل المساءلة تنصب على النتائج المتحصلة، وعلى الخلاص الثوري وإنجاز المهمات التي تخرج المجتمع من واقعه الموسوم بالرداءة الموصوفة.

وإذا كانت المساءلة الثانية تتوجه نحو إخراج البلاد من حالة التبعية للقوى الغربية، ومدى حصول ذلك بوصفه أحد الأهداف الثورية للجماهير. والمساءلة الثالثة حول تحول المجتمع نحو الديمقراطية، وهو ما لم يظهر أنه قد تحقق، لأن القوى التي جاءت بها الديمقراطية إلى الحكم في البلدان التي أنجزت المرحلة الأولى من حراكها الثوري، لم تكن الديمقراطية من مرتكزاتها الفكرية وثقافتها، بل ربما كانت موضع احتقارها وهجومها، ومن أراد استقصاء احتقار الإسلاميين للديمقراطية ورفضها واعتبارها كفراً، فسيجد أدلة كثيرة على ذلك، كما سيفاجأ بهذا الانقلاب المفاجئ في إعلانها الانتماء إلى الديمقراطية، ما يبعث الريبة والشك في توجهاتها. ونؤكد هنا أن الديمقراطية عندما تقتصر على صندوق الانتخاب تكون ناقصة. إنها ثقافة وحراك ومناخ يتلبس المجتمع.

وإذا كانت المساءلة الرابعة حول التنمية، فلكي لا نظلم، نقول إن هذا يحتاج إلى وقت كاف، لأن الحراك الاقتصادي بطيء ويجب أن يأخذ وقته حتى تبدو انعكاساته على المجتمع، والمستقبل يتكفل بهذه المساءلة.

والمساءلة الأهم حول العنف، فكل فعل يتوسل العنف لا يصح أن يكون فعلاً ثورياً، إلا إذا كان ثورة ضد محتل. الثورة تحصل على النظم السياسية لأنها مستبدة أو فاشلة في إحلال السلم الأهلي، ولأنها غير قادرة على إحداث تنمية حقيقية، وغير ذلك من الأسباب التي تستوجب الثورة فعلاً. وهذا يحتاج إلى شبه إجماع جماهيري، وقد يتوفر ذلك وتسقط هذه النظم. وقد برز ذلك في شوارع مدن مصر وتونس، وقد عبر الناس في سورية عن فرحهم بسقوط حاكم مصر (حسني مبارك) فخرج أهل دمشق مبتهجين إلى الشارع يعبرون عن فرحتهم.

لكن عندما نثور على السلطات الموصوفة بالاستبداد واستخدام العنف ضد المجتمع، فمن أبسط المبادئ ألا نكرر فعلها، فنثور على العنف بمزيد من العنف، أي أن تكون الثورة سلمية لا تتوسل العنف كي لا تقع في التناقض. وعلينا ثانياً ألا نفسح المجال للأجنبي الذي تحدث الثورة للخروج من التبعية له، أن يعود ثانية للتأثير على واقعنا.

قد يقول قائل: إن العنف الذي يلجأ إليه المحتجون، هو للدفاع عن النفس كما حصل في ليبيا، ويحصل في سورية على نحو أوسع. فإذا واجهت قوى الأمن المظاهرات بالسلاح، وهذا غير مبرر ما لم يكن دفاعاً عن نفسها، فإنه يكون أول بوادر فشلها وانتصاراً للحراك. وقد تقتل شخصاً، عشرة، مئة، ألفاً، عشرة آلاف.. إلخ، لكن القتل لم يكن ليبلغ ما بلغه لولا تقابل عنفين، عنف الاحتجاج وعنف القوى الأمنية، ولو كان للمحتجين في بداياتهم من الجماهيرية ما يترك بصمة قوية على الواقع، ويقدم الدليل على اتساع الاحتجاج بحيث تغطى ساحات الوطن بالجماهير، كما حدث في تونس ومصر، لكان ذلك كافياً في حال إطلاق النار على المظاهرات بالشكل الواسع، أن ينحاز الجيش وقوى الأمن لهذه الجماهير دون تردد، قولاً واحداً.

إن التحرك الثوري بالعدوى غير كافٍ، ما لم تكن هناك ضمانات شعبية، لكن بعد أن بلغ العنف من الطرفين مبلغه، فلم يعد قياس المشاعر حقيقياً، لأن يقيس أثر العنف بعد تأثر المشاعر بالدماء والدمار وعوامل التحريض الإعلامي والتهويش الخارجي واستغلال المشاعر الدينية والتأليب المذهبي والطائفي.

إن إعطاء الفرصة للوحش المتغول في أحشاء كل سلطة، أو إثارة هذا الوحش، هو فعل يقع موقع الشبهة، ما يشي بأن الهدف هو الدمار والقتل، وهذا فعل يصعب أن يقع أساساً من قوى وطنية داخلية فقط، إنه بحاجة إلى تغذية خارجية بكل أسباب العنف (المال والسلاح) مادياً، و(الإعلام والمواقف) معنوياً. ولو ترك الحراك دون عنف، لكان ظهور الحد الفاصل في انحيازات الجماهير، وعندئذ كان الحراك سيكسب في حال كونه صادقاً، فهو قادر على توظيف سخط الناس على الأخطاء المرتكبة في الدولة، وسيجد الكثير من ذلك مما يجعل مصداقيته عالية.

إنني منحاز لما هو ثقافي يدعم المبرر الأخلاقي والسياسي في اعتباراتي التي دفعتني لكتابة كتابين ضد العنف، وفي شرح وسائله ونتائجه، هما: (العنف من الطبيعة إلى الثقافة)، صدر عن دار النايا، و(المرأة في دوائر العنف)، صدر عن رابطة العقلانيين العرب. وأكرر موقفي  المبدئي ضد العنف من أي شكل ومن أي مصدر، منسجماً مع ما يقوله سليم مطر في كتابه (الذات الجريحة): (ولا تحل الكارثة في أي شعب إلا  عندما يصبح العنف والسلاح مبدأ مقدساً يدافع عنه حتى الشعراء الذين يدمعون لمرأى الفراشات وطيور البطريق)) (ص226)، ويقول: (مهما بلغت خسائر الكفاح السلمي، فهي أقل بمئات المرات من خسائر الكفاح المسلح) و(إن مشكلة الحركات التي تتبع أسلوب العنف، تكمن في خضوعها لسيادة العقلية العنفية وانحسار الأساليب السلمية والفكرية الممكنة) (ص241).

وهنا نصل إلى المبدأ الأساسي الذي يتيح للثورات أن تقوم، أو الذي تجد فيه محركها، وهو مبدأ أخلاقي، هذا المبدأ الأخلاقي يقول: إن لدينا وضعاً ما فقد مبرر وجوده وقيمه الأخلاقية، لاستبداده مثلاً أو لعنفه أو لضعفه، أو لأي سبب من أسباب الفشل التي يتحدث عنها عند اتهام السلطات وعدّ سقطاتها وأخطائها. وهذا المبرر الأخلاقي يصبح مسوغاً للتحرك ضد هذه السلطة. فإذا كان أسلوب المتحركين ضد السلطة هو الأسلوب ذاته الذي تدان من أجله، تكون الكارثة في عدم التمايز عن هذه السلطة، فإذا كنت أُدين النظام بالعنف، فعلي أن أسلك الأساليب التي تجعلني أتجنب العنف. أما إذا كنت سأتبع أسلوب العنف ذاته فعلي أن أسكت عن استخدامه ضدي. وهنا لا يصح مبدأ (البادئ أظلم)، لأن اللجوء إلى العنف ولو متأخراً لا يعطيه المشروعية الأخلاقية لأنه مرفوض مبدئياً. وهو مسوغ كافٍ لجعل المختلفين غير متناقضين، أي من طينة واحدة، وتكون الحجة في صالح السلطة لأنها تكون في موقع دفاع عن النفس والبلاد، خاصة إذا كان الحراك يعتمد على دعم خارجي واضح.

إن التناقض الحاصل من رفض العنف، واستخدامه تحت مبرر آخر، يضعف المسوغ الأخلاقي لرفضه وللحراك الذي يستخدمه، وهو تناقض أخلاقي يصب في خانة السلطة حين تعطى المبررات الواضحة لعنفها:

لاتنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَهُ

عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيم

فالفعل القبيح لا يسوغ رد الفعل القبيح من أي كان. ويجب أن نتذكر أن لدى السلطات مسوغات احتكار استخدام العنف لحماية المجتمعات التي تقودها بمبررات قانونية.

إن الفرح الذي دخل قلوب الناس عند بدء الحراك في مصر وتونس، لمجرد رؤية الإنسان العربي انتفض على ضعفه ودخل زمن الفاعلية، رافضاً السكوت والخنوع، ومعلناً تدشين زمن جديد يمكن للجماهير فيه أن تحمل راية التغيير والاحتجاج وتقويم الأعوجاج، قد سرق، لأن الفاعلية قد آلت إلى السلاح أو إلى الأجنبي بالتبعية، أو القوى التكفيرية الظلامية. وإذا كان بعض هذا، أي ماحدث في مصر وتونس، هو من المخاضات الثورية المولدة للمجتمع الجديد، فإننا فيما يبدو بحاجة إلى ثورة على الثورة. والثورة كالقطة تأكل أبناءها، كما يقال.

نتائج الحراك سلبية سلفاً، أياً كانت، ولا تستطيع قوى الحراك نفض يدها والبراءة من المسؤولية عند المساءلة.

العدد 1105 - 01/5/2024