البدوقراط واللص قراط في مواجهة الديمقراط

يمكن القول، المجتمع (النظام) الأهلي القديم (الأبوي- البطريركي)، وأنظمة الفساد، يحولان دون بناء الأنظمة الحديثة المعبر عنها بالديمقراطية.

أهم ما يميز المجتمعات الأهلية، السلطة المطلقة التي يتمكن منها الأب، أو شيخ العشيرة (السيد)، الذي يرث من سبقه على رأس السلطة، والذي لا ينعزل عنها إلا بالموت. أما في المجال الديني، فيعدّ رجل الدين المتسلط، شيخ الملة أو المذهب أو الفرقة، ممثلاً للإرادة الإلهية التي وكلته برعاية شأن سماوي، هو حماية المجموعة من الشرك أو فساد العقيدة. ولم يسجل التاريخ تفارقاً أو تباعداً كبيراً بين الاتجاهين، بل لقد كانا عبر الأيام يداً واحدة في الإطباق على إرادة المجتمعات. وربما كان أبلغ تعبير عن ذلك منذ القديم وصية أزدشير، الكسرى الفارسي، لابنه حول المحافظة على تلازم السلطتين الدينية والسياسية، وضرورة ذلك لنجاح الحكم. ولدراسة هذه النظم لا بد من التوقف عند أشكال العصبية التي تنتجها، بالمفهوم الخلدوني.

الشكل الذي نشير إليه غير مرهون بزمن معين، بمعنى أنه ليس نظاماً بائداً نستجلي مواصفاته من دراسة التاريخ، بل لا تزال أمثلته تواجهنا في مواقع كثيرة. وإذا كانت دول الخليج ذات النظام الملكي أو الإماري المشيخي التي نستدل بها على استمرار هذا الشكل، على الرغم مما حدث في العالم من تطوير لأنظمة الحكم، دون أن يتغير في هذه المنطقة. وربما يكون الداعم لبقائه هو الإيرادات المالية النفطية التي تجعل الناس أقل تفكيراً بالاحتجاج أو بما تعانيه الشعوب من ضيق بالمقارنة مع ما تجده مجتمعات الخليج من يسر في أمور حياتها، مع الإشارة إلى الحديث الواسع عن الفقر في بلد مثل السعودية. ويضاف إلى ذلك الربط بين القبيلة والإيمان الفرقي المذهبي، كالتلازم بين الوهابية وبني سعود.

هذا النظام القبلي الأبوي التقليدي، ليس حكراً على دول لا تزال تتوارث نظام الحكم الأسري. فهناك حكام يقدمون إلى حكم الدول بأساليب فيها سمات التحديث الديمقراطي، لكن ثقافة وتوجه الحكام أو طريقة إدارة البلاد لا تخرج من التقليد إلى الحداثة، ولا تطبق فيها المبادئ التي تشير إليها طريقة اختيار الحاكم. وقد يكون الأسلوب المتبع وخطاب الحاكم خير دليل على أبوية تقليدية أهلية، تحت لافتة الديمقراطية.

والمثال الأبرز على ذلك حديثاً، ما تمخضت عنه ثورة كانون الثاني المصرية. إذ انتخب محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين رئيساً للجمهورية. ومع إعلان الانتماء إلى الحيز الديمقراطي في الوصول إلى الحكم، فالملاحظ أن النظام ورئيسه مسكون بهاجس الجماعة، يعبر عن ثقافتها وتطلعاتها في طريقة إدارة البلاد التي لا تنتمي أغلبيتها إلى هذه الجماعة. فهو لم يضع فئويته جانباً وهو يمارس إدارة بلاد متنوعة، خاضت صراعاً مريراً مع حكم فاسد للخروج إلى عالم الديمقراطية، وأهلها متشوقون لقطف ثمار جهودهم الثورية. والديمقراطية لا تتحقق على يد جماعة لم تؤمن بها، وليست جزءاً من ثقافتها، وهي جماعة متصلبة في وجه الآخر، وأنتجت نفياً لآخرين كثر، أي لمن لا ينسجم مع رؤيتها، وهم أغلبية المواطنين.

ألقى مرسي خطاباً في الجامع الأزهر بمناسبة ليلة القدر 12/8/،2012 وكان الحضور في هذه المناسبة جمهوراً غالبيته الساحقة من المعممين. وإذا صرفنا النظر عن الشكل، أي المناسبة الدينية لا الوطنية، والمكان الديني (مسجد) والحضور (رجال دين)، فإن الخطاب هو الذي يستوقفنا، إذ لم يكن خطاباً لرجل سياسي يقود بلاداً متنوعة عقدياً، كما هي متنوعة في عمق الالتزام العقدي. لقد كرر أكثر من مرة (يا أهل السنة والجماعة) في خطابه المنقول تلفزيونياً. وإذا كان المصريون فيهم من أهل الديانات الأخرى، فإن فيهم أيضاً من غير أهل السنة والجماعة، أي من مذاهب إسلامية أخرى، وهذا الخطاب أو النداء، تفريقي، يفرق بين فئة وأخرى، ولا يليق برئيس للجميع. كأنه يخطب أمام جماعته (الإخوان المسلمين)، في الوقت الذي كان عليه أن يوجه خطابه إلى الجماعة الوطنية السياسية فيقول (أيها المواطنون) مثلاً، بدل نداء الجماعة الإيمانية، ما أبعده عن الخطاب السياسي الذي يجب ألا يكون لرئيس جمهورية خطاب غيره عندما يتحدث للجموع وليس في الأروقة الخاصة. بل يجب أن يتخلى عن خطاب الأروقة بمجرد وصوله إلى الرئاسة، لكن طبع شيخ الطريقة غلاب.

ظهر ذلك أيضاً في تكرار عبارة (أهلي وعشيرتي)، وهي عبارة من قاموس لا يليق برئيس على منبر عام، لأن من مهامه تجاوز الأهلين والعشائر لتوحيد الجميع تحت راية المواطنة التي تنقضها الفئويات. وهو أياً كان قصده من العبارة، بدا محكوماً بثقافة مستمدة من مطبخ فكره السياسي الفئوي الذي ناضل تحت رايته طويلاً حتى بدا غير قادر على الخروج منه، مناقضاً مبدأ المواطنية. بالتالي فإن حساسية الناس الذين يلتقطون كل إشارة أو كلمة تخرج من رجل يحتل موقعاً كهذا، لن تغفر مثل ذلك الخطاب بمفرداته ومعانيه ومصطلحاته الإيمانية، والتي يتناول بها موضوعات سياسية، ما جعل انحيازاته تبدو واضحة.

الوقوف على هذه الفكرة، للإشارة إلى أن كثيراً من المناصب والمواقع السياسية قد يشغلها من يدَّعون انتماء إلى الحداثة ويطمحون لذلك، دون القدرة على الخروج من أثواب المجتمع الأهلي. ومن الأكثر ضرراً على الحداثة والديمقراطية أن ننقل إلى موقعهما ركام الموروث والتقاليد، استجابة لطموح من يملكون مؤهلات وثقافة متمكنة من شخصياتهم تنتمي إلى ما هو إيماني قبلي وفئوي لا يساير الحداثة.

هذه الثقافة قد تساير الانتقال إلى مجتمع طبقي يخرج من رحمها إذا كان لها دور في الانتقال، لكن من الصعب أن تساير الانتقال إلى مجتمع لا طبقي، بالتالي فهي تعيد إنتاج الإعاقة.

ما ذكرناه شكل هجين في التوجه إلى الديمقراطية التي نحتاج للانتقال إليها إلى ثقافة أخرى ترفد حراكاً لا يكتفي بالنوايا والنصوص. وترك الطربوش والعمامة والكوفية والثوب الفضفاض إلى بدلة حديثة، لا يدخل في عالم الحداثة دون فكر حديث وثقافة وممارسة حداثية.

الشكل الثاني من أشكال أنظمة الحكم المناقضة للديمقراطية، هي أنظمة لا تستطيع التخلص من الفساد الواقع في عالمها حتى أطلق عليها (اللص قراطية)، مع ادعائها الحداثة والديمقراطية على غير الحقيقة التي تسكنها. فحكامها حكموا بالغلبة والعصبيات وحكم الأمن والانقلابات العسكرية، وهم يعتمدونها لإدامة حكمهم، ما يجعل تقاسم الغنائم والمواقع بين من هم في رأس هرم السلطة، يعتمد الولاء لا الكفاءة. ولضمان الولاء لا بد من إطلاق يد الموالين، ما يجعل بعضهم يتحول إلى غيلان فساد، لا ينسون توزيع الحصص على أرباب النعمة والمحاسيب.

مثل هذه الأنظمة لا تستطيع مواجهة الفساد الذي تعممه وتفوح منها رائحته، مهما أعلنت عن برامج مكافحة للفساد، فهو يصبح حالة بنيوية يستلزمه استمرار النظام، والفاسد لا يحارب فاسداً، ولا يكفي أن يكون لمن هم في أعلى السلطة طهرانيتهم، فأبويتهم تمكن العصبيات على حساب الوطنية، لأنها ضمان الاستمرار.

وإذا كانت الشعوب في بلدان الأنظمة الأبوية (وكلا النظامين يصبحان أبويين) قد سلمت إدارة بلادها للحاكم وعصبيته القبلية أو الحزبية السياسية، فإن هذه البلاد ومقدراتها تصبح رهينة العابثين ممن يدعون الحداثة، وتصبح الغلبة للفاسدين على القرار الوطني، بالتالي يصبح إنفاق الأموال العامة يجب أن يكون أحد مردوداتها استمرار الولاء وجلب الأنصار وديمومة التمتع بالسلطة، وقد اعتبر ذلك لصوصية، حتى أطلق على هذه الأنظمة: اللص قراطية.

في مؤتمر عقد في القاهرة عن الإبداع والتجديد في الإدارة العربية، تحدث المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الإدارية، عن فشل وضع استراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد، التي تتطلبها التنمية، وكان هذا شعار المؤتمر. وقد تحدث الأمين العام للمنظمة العربية لمكافحة الفساد في هذا المؤتمر مشيراً إلى بعض الأرقام التي تحدثت عن أن الدخل القومي العربي من عام 1950إلى 2000 يشير إلى أن مجموع الإيرادات للدول العربية في هذه الفترة بلغت ثلاثة تريليونات دولار، وقد أنفقت بواقع تريليون دولار على التسليح، وتريليون دولار على مشاريع البنية التحتية والمشاريع التنموية، وتريليون دولار على الرشا المرافقة لصفقات رافقت هذه المشاريع. وقد شارك في هذا المؤتمر قيادات إدارية ومالية وقانونية وباحثون أكاديميون من أكبر خمس عشرة دولة عربية (صحيفة الحياة 4/7/2010 العدد 17257).

هذا الواقع الذي تدعمه هذه الأرقام المذهلة للفساد، والتي تساير شكل الحكم في النظامين المشار إليهما،  يؤكد مبدأ (السيف والمنسف)، فالمنسف يمثل الغنيمة، في حين أن السيف يمثل التهديد لمن خرج على الطاعة والتبعية. ودرجة الغنيمة وقيمتها مرتبطة بمقدار الولاء والتبعية، كما يؤكد مصطفى حجازي (ص49) فالسيف المسلط على رقبة الخارجين على الولاء يحمله من يأكل خبز السلطان، كما يؤكد المثل (من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه). بالتالي يصبح الوطن وموارده رهينة أصحاب العروش ومن يحمل عبء حمايتها والدعاية لها، وهنا يظهر دور المثقفين الملتحقين بالعروش ممن ينتظرون المكافآت على نمط شعراء بني أمية وبني العباس، وهؤلاء من حواشي السوء، أو (وعاظ السلاطين) على حد تعبير علي الوردي. ويشكلون كارثة على الشعوب والأنظمة وعلى الفكر، بنهجهم التبريري الدعائي.

آفة النظام الأبوي، أو البداوة (المجتمع التقليدي العشائري الإيماني…)، وآفة اللصوصية أي الفساد، آفتان مانعتان للديمقراطية، وواقعتان في الخندق المقابل لها، وقد عجزت الأنظمة العربية التي أعلنت التوجه نحو الحداثة عن تجاوزهما، حتى تلك التي جاءت نتيجة الحراك الثوري العربي مؤخراً، ومثالها تونس ومصر، فقد وقعتا ضحية انقضاض العقل الإيماني (الإسلام السياسي)  الفئوي الضيق الأفق، وما يتطلبه من فساد لديمومته، ما اقتضى الثورة عليه من جديد، بأمل الخروج من الحالة وتمهيد طريق الديمقراطية.

والسؤال الذي تطرحه القوى التقدمية اللاطائفية واللافئوية واللاطبقية: لماذا تبدو بلادنا عصية على الحكم الرشيد حتى يومنا هذا وإلى ما شاء الله، فلا تتحقق المخارج من التبعيات، ولا تجد الديمقراطية طريقها لضمان صادق لتوجهات الناس وإرادتهم الوطنية؟ وما الذي يلزمنا من أجل الخروج؟ إذ كلما تكونت كتلة وطنية تاريخية نضالية تبحث عن مخرج، قادها مخرجها إلى سراديب وأنفاق جديدة! ولهذا حديث آخر. إننا نعيد سؤال أمير البيان مجيد أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟!

العدد 1104 - 24/4/2024