تحالف قوى اليسار وإنقاذ الوطن

عندما تهدد الأخطار الكبيرة الأوطان، تُستنهض إرادات الشعوب وقدراتها للمواجهة، وللدفاع عن الكرامة الوطنية وحرية الوطن أرضاً وشعباً، ولتأمين تنميته وتقدمه الاجتماعي، والعيش الكريم لأبنائه، فأين موقع قوى اليسار السوري من هذه المهام؟

في بلادنا، كثيرة هي القوى التي تحدد موقعها ضمن نسق قوى اليسار، أي القوى التي تعلن انحيازها للطبقات الفقيرة، وهي أكثرية الشعب. فهل تتضافر قواها للتصدي لهذه المهام التاريخية الوطنية والاجتماعية؟.

مهام المرحلة

إنها مهام مرحلة التحرر الوطني الديمقراطية، التي يندرج ضمنها: مواجهة الاحتلال وتحرير الأراضي المحتلة، والتحرر من التبعية، وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن إنجاز هذه المهام الكبيرة يتطلب أوسع مشاركة شعبية من القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة التي عليها أن تنتظم في أطر جبهوية عريضة.

ومن أولى التحديات الأساسية التي تواجه قوى اليسار اليوم، كيف تمتلك القدرة على قيادة العمل الجماهيري لمقاومة القوى الإمبريالية والرجعية، ومن أجل التغيير والتحول المجتمعي إلى نظام وطني ديمقراطي تقدمي.

فالمرحلة الحالية تتطلب توافق كل القوى اليسارية والعلمانية عموماً، على تنوعها، والاشتراكية منها خصوصاً، أحزاباً ومنظمات وأفراداً، وكل من يسعى للخلاص من التخلف، ويقف في وجه الاستقطاب الرأسمالي عالمياً ومحلياً، لتشكيل قوى وازنة، بل حاسمة لإنقاذ البلد من الأزمة، ووقف العنف ونزيف الدم والتدمير الكارثي، ولمنع التدخل الخارجي، وطرد المسلحين الغرباء من البلاد، وصون سيادة الدولة، وحماية تكاتف نسيجها الاجتماعي، وإقامة تعددية سياسية وشراكة حقيقية في الوطن، وتحقيق مطالب الجماهير الشعبية، وإعادة الإعمار، والتنمية المخططة وحماية ثروات البلاد، وبناء الدولة الحديثة، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة الأمن للوطن والأمان للمواطن، وسيادة الحق والقانون والحريات والتقدم والعدالة الاجتماعية.

وهكذا نرى أن لوحدة جهود اليسار مهام تمليها الظروف الحالية، ومهام بعيدة المدى، وتمتد لفترة زمنية طويلة. فإذا كانت وحدة جهود قوى اليسار تمليها الحاجة إلى إنقاذ البلاد من ظروف الأزمة المعقدة والمتعددة الجوانب التي تعيشها البلاد منذ اثنين وثلاثين شهراً، فإن واحدة من ضروراتها أيضاً، هي مهمة الوقوف في وجه المحاولات اليمينية الدؤوبة والمستميتة لدفع البلاد نحو اقتصاد السوق الحر، ليستأثر النافذون وأصحاب الأموال والامتيازات بالقرار الاقتصادي والسياسي وثروات البلاد، محوّلين سواد الشعب إلى الفقر. فعملية التنمية الاجتماعية، وصيانة حقوق ومكاسب الجماهير الكادحة، والمنتجة، مسألة وطنية، ومسألة مستقبل ومصير.

إننا نشهد تكاتف جهود البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية وقوى الليبرالية الاقتصادية الجديدة مترابطة مع الرأسمالية الدولية، لضمان مصالحها واستنزاف ثروات الوطن. ونشهد القوى السلفية والظلامية تعزز روابطها على مدى الساحات العربية والإقليمية، وتهاجم في مختلف الميادين بشراسة. وتشدد القوى الرجعية العربية تعاضدها وتضامنها فيما بينها، وتطرح مشاريع اتحادات تمتد من الفجيرة إلى المغرب مروراً بالأردن، معمقة تحالفاتها مع القوى الإمبريالية والصهيونية.

بينما نلحظ غياب الدور الفاعل والموحد الذي يمكن أن تنهض به قوى اليسار مشروعاً وعملاً، رغم التضحيات والتاريخ النضالي الوطني والاجتماعي العريق لهذه القوى في الدفاع عن حرية الوطن والشعب وتقدمهما.

ائتلاف اليسار

لقد أصبح واضحاً أن مختلف الجبهات والائتلافات والتجمعات التي ينضوي داخلها مجموعات من الأحزاب والقوى اليسارية، على أهميتها، غدت غير كافية للنهوض بكل المهام المطروحة أمام تيار اليسار في بلادنا. وغدا ملحّاً جداً الاتفاق على صيغة متقدمة لتحالف مختلف قوى اليسار السوري، التي تواجه تحدياً غير مسبوق في المرحلة الراهنة. وأن يضمن التوافق لكل القوى المتحالفة الاحتفاظ بحقها في الاستقلالية التنظيمية والفكرية، وممارسة نشاطاتها في مختلف الأوساط بحرّية. وإخضاع أسس تحالفها للتدقيق والنقد والتقويم، على ضوء التجربة وطبيعة مهام المرحلة التي يفرزها التطور. وأن تتجنب القوى المؤتلفة حالة التناحر والصراع التي تقضي على فضائل التنوع السياسي والفكري، واعتبار التنوع مصدر غنى، وأن ترسخ مبدأ الحوار، تأكيداً لمصداقيتها في النضال من أجل الديمقراطية والتمسك بالمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة.

إن تأخر اليسار عن توحيد جهوده، وخوض المواقف الجريئة، سيزيد من عزلته عن الجماهير، ويشتت القدرات الجماهيرية النضالية. فلتسهم قوى اليسار في إنقاذ الوطن من هذا الصراع المسلح الدامي، بتوحيد قواها على أساس برنامج وطني تقدمي ديمقراطي تحتضنه القوى الشعبية الوطنية الواسعة. وإذا كانت قوى اليسار المختلفة كلها تتحمل قسطها من المسؤولية عن أسباب الضعف الذي تعانيه في النضال الجماهيري وتشتت مواقفها، فإن الحركة الشيوعية السورية بمختلف أحزابها وتجمعاتها، وكل القوى المسترشدة بالماركسية، تتحمل مسؤولية إضافية في عدم الوصول إلى أطر توحّد جهودها، وتمكّنها من تقديم المبادرات لتجميع كل قوى اليسار، ولتسريع الوصول إلى التأثير الإيجابي الكبير لهذا التكتل. فوحدة نضالات القوى اليسارية ليست فقط جمعاً عددياً لطاقات هذه القوى المتكتلة، بل تستبطن تشكّل قوة نوعية شعبية واسعة مؤثرة، تفوق مجموع قواها المتفرقة، وتزيد من دورها الفعال في المجالات السياسية، وقدرتها على إنجاز المهام الوطنية والاجتماعية والديمقراطية، وتحقيق التنمية، وانتزاع زمام المبادرة في تحديد مصير التطور اللاحق في البلاد.

وعلى القوة التي تُحسب على اليسار وتمسك بالسلطة أن تدرك أن الاستقواء والاستفراد بالسلطة لا يجعلها بمأمن من المخاطر. فالحرية المقصورة على أنصار الحكومة وعلى أعضاء حزب واحد، مهما كثروا، ليست حرية. والأزمة التي ترسف تحتها البلاد في السنوات الأخيرة كافية لتدرك مسؤوليتها الكبرى والأساسية، وأنه من الضروري أن تنعطف نحو سياسة التكتل اليساري والمشاركة الفعلية، وتكوين الحامل الاجتماعي للتطور التقدمي الفعال، وإلا فهي تفرّط بعوامل تقدم اليسار، وتسهم في ضعفه، في مواجهة القوى المضادة، وعليها أن تتوقف كلياً عن ممارسة التضييق على قوى اليسار المختلفة، وأن تنصرف أجهزتها الأمنية لمهامها الأساسية في حماية الوطن من تآمر القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية، وأعوانها في الداخل من العملاء والسماسرة والرجعيين والفاسدين ودعاة التعصب الديني والطائفي.

إن التيار اليساري، في الظروف الحالية، يمكن أن يشمل كل من ينخرط في النضال أفراداً وقوى، لحماية كيان الدولة وسيادتها وتحرير الجولان، والعمل لانتقال البلاد إلى طريق التقدم والحرية والديمقراطية وسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، والعمل على تعبئة أوسع القوى الشعبية للمشاركة الفاعلة في دعم السياسات الوطنية والتقدمية التي مآلها تحقيق العيش الكريم لكل الشعب، والقضاء على كل أشكال الاستغلال والاستلاب والاستبداد والفساد، وتتيح للكادحين والمنتجين التمتّع بثمار عملهم، وحماية ثروات البلاد من النهب، وإعادة توزيعها بعدالة.

إن هذه القوى الشعبية، بطبيعة مصلحتها، تشمل أوساطاً واسعة من العمال والفلاحين والمثقفين ومن الفئات الوطنية المتوسطة والمنتجة، ويمكن أن تلتف حول برنامج نضالي لليسار، ينطلق من الواقع الملموس لمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وتحديد الأهداف الموضوعية للمرحلة الآنية منها والبعيدة، وتندمج فيها المهام الوطنية والاجتماعية والديمقراطية، مع إبراز الطابع التغييري لفتح الآفاق لحركة التحرر الوطني. وهكذا تبدو الحاجة واضحة إلى من يبادر بطرح مشروع برنامج جريء، منفتح لائتلاف اليسار، وتبنّي المتابعة والحوار مع أطرافه كافة.

مواجهة الإمبريالية والصهيونية

وواضح أن أول ما يجب أن يتضمنه برنامج اليسار السوري اليوم، هو الوقوف في وجه السياسات الإمبريالية والصهيونية الاستعمارية، والدعم لكل حركات التحرر الوطني والمقاومة، ومقاومة كل أشكال الاحتلال والقواعد العسكرية العدوانية في المنطقة. فالعولمة التي دفعت بالرأسمالية لأعلى مراحلها الإمبريالية، وعمّمت رسملة العالم، بخصائصها السلبية والإيجابية، تعمل لتكريس وتجديد أساليب استغلال الدول النامية وضمان تبعيتها، وإثارة النزاعات الداخلية فيها، وسدّ آفاق تطورها المستقل، مما يجعل النضال ضد الإمبريالية في هذه المرحلة التاريخية الأولوية، مع فضح الرأسمالية، بوصفها النظام المولِّد للإرهاب في العالم بأشكاله المختلفة، من الفاشية إلى الأصوليات الدينية والطائفية والعرقية، وإثارتها للحروب القاتلة لملايين البشر. فالأزمات العميقة المتكررة التي تدق أبواب الرأسمالية بين الحين والآخر تدفع بالإمبرياليين إلى الهجوم المتعدد الأبعاد على الحقوق الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية للشعوب، وإلى تدخلات وقحة في الشؤون الداخلية لأغلبية بلدان العالم. وهذا يلقي على قوى اليسار مسؤوليات تاريخية في المواجهة مع عدوانية النظام الرأسمالي الإمبريالي.

ويجب التنديد بكل المشروعات التي تدعو القوى الدولية الإمبريالية للتدخل في تشكيل أنظمتنا. فالغزاة لا يصنعون ديمقراطية، ولا نهضة، ولا يجوز الانخداع بشعارات تخالف طبيعة الإمبريالية الاستغلالية ومراميها الطغيانية.

إن آفة الاستبداد من أقبح الآفات الاجتماعية التي يجب النضال ضدها ومقاومتها في مختلف الظروف، والإفلات منها إلى أجواء الحرية الواسعة وسيادة القانون. ولكن من المفارقة أن نجد بعض الليبراليين يستدعون المستعمر، لتخليصهم من الاستبداد ضالّين عن أن الاستعمار أشد خطراً واستبداداً وتضييقاً للحرية، وتفريطاَ بالقضية الوطنية. والأغرب أن يكون بعض هؤلاء الليبراليين الجدد هم ( رحّل ) من وسط يساري سابق. إن اليساريين من أشد الوطنيين تمسكاً بوحدة التراب الوطني والدفاع عن استقلاله والتزاماً بالقضايا الوطنية والقومية، وتجاوزاً لدائرة العصبيات العقيمة ما قبل المدنية وما تحت الوطنية والأصوليات القاتلة.

الحريات العامة

إن برنامج اليسار يجب أن يتضمن بوضوح كافٍ ضمان الحريات العامة السياسية والاجتماعية، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير، والتنظيم والتجمع، والتعدد السياسي والثقافي، واحترام الرأي المختلف، والتأكيد أن الرفاه الاجتماعي وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة والديمقراطية، والنظام البرلماني.. كلها منجزات إنسانية حضارية حازت علبها الشعوب بنضالاتها، وغدت حقوقاً مكتسبة، ولها أن تتمتع بها ضمانة لكرامتها وصوناً لها من أشكال الامتهان والقمع والاضطهاد والإقصاء.

إن الأجواء الديمقراطية وما تضمنه من الحرية والمساواة والاعتراف بحقوق الآخر تسهم في تغيير الفرد ورفع مستواه الأخلاقي والحضاري، فتتحول من أداة إجرائية إلى قيمة بحد ذاتها، وتفتح الآفاق لتفاعل الأفكار وإثراء العقول وتقدم العلوم، ونهوض المجتمع وتفتح القدرات الإبداعية فيه. فالحرية والمساواة أصبحتا من الشروط الأساسية للسير باتجاه العدالة الاجتماعية. ومن أولى مهام اليسار النضال للحد من الفوارق الطبقية في المجتمع، والتوزيع العادل للثروات، وإزالة كل أشكال الاستغلال والقهر، والالتزام بالنضال لإحداث تغيير جذري في الواقع القائم، وللانعطاف كلياً عن نهج السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، التي سببت المآسي لجماهير شعبنا. والعمل لضمان حقوق الفئات الواسعة من المستغَلين والمهمَّشين، والدفاع عن حق النقابات العمالية والمهنية بنضالاتها من أجل حقوق منتسبيها وفي انتخاب هيئاتها القيادية بحرية، ومؤازرتها لتحقيق مطالبها، ولتمتين تحالفها مع الفئات الشعبية المضطهدة من أجل التنمية والتقدم والاشتراكية.

الشروط الثقافية

إن تصدي اليسار وتحالفاته، بالعمل الجاد المثابر، لتأمين المناخات الضرورية للعلمانية والديمقراطية، ونشر الفكر العقلاني التنويري من أهم شروط نهضة المجتمع، ولترسيخ الانتماء الوطني وروح المواطنة والمدنية، ولمواجهة تيارات الردة السلفية الدينية المتعصبة وأفكارها وممارستها الظلامية التكفيرية التي تقيد الحرية، وتكبل العقل والإرادة بشروط الماضي التي فات زمانها. فهذه التيارات الأصولية وغيرها من مظاهر العودة للانتماءات ما قبل المدنية – لا تضمن تحرر أيِّ شعب ولا وحدته. بل كانت وما تزال إعاقة كأداء في طريق التقدم والمجتمع المدني الحضاري. وهكذا يظهر أن الحاجة إلى اليسار في مجتمعنا هي حاجة ثقافية أيضاً لمواجهة قوى التخلف والنكوص والإرهاب والثورة المضادة، ولخلق الأرضية المجتمعية للنهوض، ولتحصين الوطن ضد أي شكل من التقسيم والتفتيت الطائفي والإثني وغيره.

إن المثقفين جزء أساسي من حركة التقدم اليساري، وعليهم أن ينهضوا بدور تنويري مقدام في نشر الوعي الجماهيري الطبقي العلماني، وحشد القوى لدعم عملية التغيير. فالمثقفون يشكلون نسغ الحياة السياسية والثقافية وترسيخ الثقافة الوطنية في مواجهة الاستعمار والاستبداد والأصوليات التكفيرية، ولا يمكن تصور نشاط سياسي أو فكري أو اجتماعي فعال لتكاتف قوى اليسار، إذا لم يكن المثقفون في لجّة هذا النشاط. وعلى أحزاب وقوى اليسار أن تحتضن المثقفين، وأن تضمن أجواء مناسبة لتأدية أدوارهم الرائدة في مساندة نضال الطبقات والفئات الفقيرة.

الشباب

إن التحدي الذي يواجه قوى اليسار، للنجاح بقيادة العمل الجماهيري، هو جذب الشباب إلى صفوف المناضلين من أجل الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، ولتغيير الأشكال السلطانية في الحكم. فأحزاب اليسار بحاجة إلى الشباب وطاقاتهم المتجددة. والشباب الذين تعرضوا لصنوف الإهمال والتهميش السياسي، وباتوا ضحايا البطالة وانعدام تكافؤ الفرص، والكبت لطاقاتهم الإبداعية، هم أيضاً بحاجة إلى وجود فاعل لأحزاب اليسار وفكرها العلمي والعلماني، وبرامجها للتغيير الجاد، والعمل على تأمين مستقبل آمن لهم، في مجتمع أكثر عدلاً ومساواة، وذلك بتغيير الشروط المادية للحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإرساء أسس جديدة لتعاون الإنسان مع الآخر بعيداً عن الاستغلال والاستلاب. فكل تجارب حكم الحزب اليساري الواحد، أو تجارب جبهات القوى اليسارية المشروطة بغير التكافؤ، وهيمنة الأجهزة الأمنية، أدت إلى تغريب الجماهير الشعبية والشباب منها بشكل خاص، وتجميد دورها السياسي، والاحتقان في استيائها من انسداد أفق الارتقاء الاجتماعي أمامها.

اليسار والنقد

إن الأحزاب اليسارية هي أحزاب تغيير للعلاقات الاجتماعية نحو الأفضل، وهي تمارس جدلية النقد والبناء. ومن الطبيعي أن تدقق الأحزاب اليسارية مسارها بروح نقدية وأن تصوّب أخطاءها دون تردد. ولكن يطفو في السنوات الأخيرة هرج بعض اليساريين، بالهجوم الدائم على اليسار، والتنصل مما يدعونه (اليسار التقليدي)، هجوم من موقع يساري فوق الأحزاب المنظمة، جاعلين ذلك مهمتهم الأساسية، ويسكتون عن استبداد الأنظمة البرجوازية والرجعية. إنه في الجوهر تغليف لموقف انتهازي، مجنباً الفرد نفسه متطلبات النضال الجمعي، ومتحرراً من عبء الالتزام بأي موقف مسؤول،مصطفاً في حصيلة الأمر، بقصد أو عن غير قصد، مع جوقة القوى اليمينية وأنظمتها.

ولكن، يجب ألا يذهب التفكير إلى الرغبة بعدم تعريض اليسار للنقد الذي يقوّم التجربة باستمرار، ويساعد على التصحيح والتخلص من الأخطاء من أجل التقدم للأمام. فهذا مطلوب دوماً وضروري، وخاصة للتطهر من النزوع البيروقراطي. فالحركة اليسارية حركة نقدية، وافتقادها للنقد يفقدها نقاوتها، ويعرّضها للانحراف عن ثوريتها، ويلوث مسيرتها بالأخطاء والأخطار. ومن حق كل اليساريين نقد برامج الأحزاب اليسارية وسياساتها، بهدف تطوير أدائها، وتقديم الاقتراحات التي تساعد على التفاف أوسع القوى الشعبية حول نضالها الوطني والطبقي. ولكن أن يستهدف البعض قوى اليسار، غاضّين الطرف عن عسف الأنظمة، ومستمرئين التجلبب بوشاح يساري قافز، مترفعين عن الانخراط الفعلي في النضال المنظم، فهذا يصب في مسار العمل لتشتيت قوى اليسار، وبث روح الإحباط واليأس فيها، ويستجلب رضا الأنظمة وتشجيعها، ويرفد موقف المتبرئين من الانتماء لإيديولوجيا اليسار. وفي الحالتين ما هو إلا موقف إيديولوجي معاكس ومخاتل.

آلية العمل

إن انهيار صيغة أنظمة الحزب اليساري الواحد الشمولية لا يعني أن البديل هو الديمقراطية البرجوازية أو الليبرالية الجديدة. إنما البديل الحقيقي هو الديمقراطية الاشتراكية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ولا بد للأحزاب اليسارية من آلية عمل تعيد لها فاعليتها، وتحدّ من انتشار الانتهازية والفردية والبيروقراطية في صفوفها، وجعل قوة المبادئ هي السائدة في حياتها الداخلية وفي علاقاتها مع القوى الأخرى، واقتران الممارسة السياسية بالعلنية والأخلاق، ومحاصرة أي شكل من الممارسات التي تحد من الديمقراطية وإقصاء دور العقل.

ولا بد من اختيار أشكال النضال الملائمة للمرحلة المعنية من تطور المجتمع. فلا توجد أشكال للنضال لها صلاحية مطلقة، فصلاحيتها رهن بعلاقات القوى في المجتمع، وبأهداف برنامجها المرحلي التي لا تتعارض مع الهدف النضالي البعيد الاستراتيجي لليسار، وهو بناء الاشتراكية.

إن وضوح أهداف برنامج اليسار للتغيير، وفق متطلبات كل مرحلة، لا يتعارض مع طرح مهام الحد الأدنى، وإنجاز إصلاحات تراكمية، مادامت لا تمس جوهر الرؤية الاستراتيجية، والبناء عليها تباعاً، بالنضالات الجماهيرية وفق الظروف الملموسة، التي تساعد على تحشيد القوى الشعبية صاحبة المصلحة بتحقيقها. فتحقيق التقدم والعدالة هو ثمرة جهد حقيقي وعمل دؤوب ورحلة طويلة لا تتأثر بالمطبات العابرة.

مشروع اليسار خيار واقعي لمهام المرحلة

يمكن لمشروع اليسار أن يحقق أوسع تحالف وطني، لأنه أولاً معادٍ للرأسمالية والإمبريالية ، وثانياً: لمقاومته كلَّ أشكال الطغيان والاستبداد، وثالثاُ: لسمته العلمانية التي تستوعب تنوع النسيج الاجتماعي والثقافي للبلاد، ويجبُّ كل الانتماءات ما تحت الوطنية، وتسود فيه ثقافة التنوع والتعددية السياسية وحق الأفراد والجماعات في التعبير عن اختلافها بحرية. ورابعاً: لأنه يعبر عن مصالح أوسع الفئات الاجتماعية الكادحة والمنتجة أي أكثرية الشعب، ويناضل من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فدور اليسار يشكل ضرورة موضوعية لنهج سياسي ينقذ البلاد من الأزمة ويعيد إعمار ما خلّفته، ولمتابعة تحقيق مهام مرحلة التحرر الوطني الراهنة والتركيز على المهام الأساسية الوطنية والقومية. ويجب أن ينصرف التفكير والعمل إلى كيفية جعل هذا الدور فاعلاً، ليشكل رافعة قوية في تحقيق المشروع النهضوي التقدمي العربي، والتفاعل مع الحركات التقدمية المناهضة للإمبريالية المتوحشة في العالم وصيانة السلم البشري. لقد كشفت الرأسمالية المؤمركة عن وحشيتها. فلا بد للتيار اليساري من النهوض وتوحيد جهوده، لمتابعة الإنجازات التي حققتها الشعوب في كفاحها من أجل الحرية والعدالة وسعادة الإنسان المادية والروحية، وتعميق علاقات التضامن الأممي بين يساريي العالم الذين تجمعهم مهام مشتركة في التحرر والمساواة بين أمم وشعوب الأرض، وقهر القوى العدوانية.

لقد واجه اليسار في العالم صعوبات جدية في نهايات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ولكنه بدأ يجد الطريق لتجاوزها. وهو يجدد مواقفه الفاعلة في مختلف القارات متسلحاً بفكر وثقافة متجددة، تحت راية التقدم والعدالة والسلم. بينما نرى اليمين، الذي ظن أنه كسب الفوز النهائي، يواجه أزمات عميقة متكررة، ولذلك فالفرصة سانحة لليسار في نطاق بلادنا أيضاً للتقدم إلى الأمام، والنهوض بمسؤولياته.

فالمشروع اليساري هو الأكثر تأهيلاً لاستيعاب كل مكونات المجتمع الإثنية والعرقية والدينية والثقافية. وحين تدرك هذه المكونات أن مصلحتها تكمن في هذا المسار، تنخرط فيه وتعمل لإنجاحه، فيغدو مشروعاً وطنياً موحِّداً، يجمع طاقات الوطن ويؤهله للمهام الوطنية الكبرى في تحرير الأراضي المحتلة ومجابهة التآمر الإمبريالي والصهيوني، ويرسي أسس التطور اللاحق في البلاد.

إن أفكار الحرية، والتغيير، والعلمانية، وتحرر المرأة، والديمقراطية، وتداول السلطة سلمياً، والتنوير، والثقافة الوطنية، والدولة الحديثة التي تضمن الأمن للوطن والأمان للمواطن، والسيادة الوطنية، واحترام الرأي المختلف، وحفظ كرامة الإنسان، والعدالة الاجتماعية، ومنع الاستغلال، والاشتراكية، ومنع الحروب العدوانية، هي الأفكار التي جذبت إلى ساحة الفعل النضالي مئات الملايين من سكان الأرض، وستبقى مضمون التيار اليساري ووسيلته للنهوض العام.

وهكذا فاليسار ضرورة موضوعية، وتزداد الحاجة إليه كلما ازداد الواقع تعقيداً، وهو خيار واقعي لتحقيق العدالة الاجتماعية.

 

(*) عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد

العدد 1105 - 01/5/2024