اليوم الأول في المدرسة

أن مرحلة الطفولة هي من أهم مراحل حياة الإنسان.. ففي هذه المرحلة تنمو القدرات وتتفتح المواهب، وتكون قابلية الطفل مرتفعة لكل أنواع التوجيه والتشكيل.

وتلعب الأسرة دوراً مهماً في هذا التوجيه والتكوين لشخصية الطفل، فللأسرة وظيفة اجتماعية هامة في صبغ سلوك الطفل صبغة اجتماعية ويكون أساس العلاقات التي تربط أفراد الأسرة قائماً على الصراحة والحب، مما يتيح الفرصة أمام كل فرد من أفرادها أن يعبّر عما يريد بحرية. والطفل في هذا الجو العائلي يتعلم كيف يعيش، وفيه ينمو، وتتكون شخصيته وعاداته واتجاهاته وميوله، والأسرة هي المسرح الأول الذي ينمّي فيه الطفل قدراته.. ثم يظهر دور المدرسة، فالمدرسة ليست فقط مكاناً للدراسة وتلقين المعلومات وعرض المشكلات الخاصة بالمنهاج، بل لها وظيفة اجتماعية لا تقل في أهميتها عن الوظيفة الثقافية. فالمدرسة شأنها في ذلك شأن الأسرة تساهم في بناء شخصية الفرد الاجتماعية، إذ يقضي فيها الطفل ساعات طويلة في حياته اليومية، يكتسب فيها خبرات اجتماعية تساعده على أن يتلاءم مع المجتمع الكبير. والتحاق الطفل بالمدرسة الابتدائية حدث له نتائج هامة في حياته، ولذلك كان ضرورياً الاهتمام بعمليات تكيفه وتوافقه لهذا المجتمع الجديد، والذي يختلف اختلافاً كبيراً عن مجاله الأسري. هذا الانتقال يفرض عليه نوعاً من الفطام الانفعالي ويستلزم تطبعاً اجتماعياً معيناً. وينبغي أن نُعِدّ الطفل لهما ونساعده عليهما.

فمهمة الأسرة منذ اليوم الأول تأمين حاجات هذا الطفل ومستلزماته كتلميذ مدرسي، من دفاتر وأقلام وحقيبة ولباس مدرسي وتزويده بشيء من النقود لشراء ما يحتاجه في المدرسة من طعام وشراب وقت الفرصة، والتهيئة النفسية له.

 

 يمكن اصطحاب هذا التلميذ الجديد ومساعدته للوصول إلى المدرسة والعودة به لفترة من الزمن، ريثما يستطيع الذهاب والعودة وحده دون مساعدة الأهل.

فتلميذ الصف الأول يشعر عند وصوله إلى المدرسة بالحاجة إلى من يقف بجانبه، فكثيراً ما نجده يتمسك بأطراف ثياب أمه، فهو خائف لا يرغب في أن يُترك وحيداً في باحة المدرسة التي تموج بالتلاميذ، وقد نجده يتذمّر ويبكي. هذا التلميذ بحاجة في اليوم الأول والأسبوع الأول من العام الدراسي إلى المساعدة والأخذ بيده للتكيف مع المجتمع المدرسي الجديد.

وهنا لابد من دور معلم الصف أن يكون حاضراً في الساعة الأولى، وأن يظهر عطفه ومهارته في كسر حاجز الخوف عند هذا التلميذ. وأن يتحول إلى أب وصديق له، من خلال الكلمة الجميلة والابتسامة الحلوة، أو تقديم شيء من الحلوى أو لعبة مفيدة تثير اهتمامه. ولابد من البحث عن صديق لهذا التلميذ من المستوى نفسه أو من تلاميذ الصفوف الأعلى، يعيش معه في الحي نفسه، يلعب معه ويؤنسه ويصاحبه، ويعرّفه على المرافق العامة في المدرسة، كدورة المياه وحديقة المدرسة وملعب المدرسة وبوفيه المدرسة.

ولابد من تكوين علاقات الصداقة الوثيقة بين التلاميذ الجدد المستجدين وزملائهم في الصفوف الأعلى. ونحن نعرف أن علاقات الصداقة في الفرق العليا في المدرسة الابتدائية تدل على نمو سليم وانتقال من الاهتمام المتمركز في الذات إلى الاهتمام بالآخرين. وتستغرق علاقات الصداقة بين الزملاء التلاميذ فترة من الزمن، وتمتد أحياناً عدة سنوات، وتمتد من سن التاسعة إلى سن الرابعة عشرة. ولابد من الاهتمام بالأطفال الذين يظهرون ميلاً للصداقة الحميمية التي يستغرقون فيها.. ومثل هذه الصداقة الوثيقة تعمل متعاونة مع الآخرين.

وهكذا فالطفل الذي يلتحق بالمدرسة، يتعرض لبعض المواقف الاجتماعية التي تسبب له صعوبات من شأنها مضايقته، وشعوره بعدم السعادة وبالرغبة في الهروب فترة من الزمن، إلا أنه سرعان ما يتغلب على هذه الصعوبات. فهو يشعر عند انتقاله إلى مدرسة جديدة أو صف أعلى أنه شخص منعزل، غير معروف، وينظر الأطفال إليه نظرة تدل على الدهشة والاستفسار، وتحيطه هذه النظرات أينما تحرك، وهو لذلك يشعر بالحرج وعدم السعادة والرغبة في الهروب كما ذكرنا ذلك، ومنازعات تأخذ شكل شجار، أو تبادل ألفاظ نابية. ويقوم الطفل  الجديد بتلك الاستجابات العدوانية ليثبت وجوده وسط الجماعة الجديدة.

أما إذا كان ضعيفاً فهو سيغلب على أمره، فإما الانطواء على نفسه أو السير في الركب. وقد تجد فئةُ من الأطفال صعوبة في الاندماج مع غيرهم، هما هم دون مستواهم الاجتماعي، وهذه الصعوبة نابعة من الأسرة التي تحذرهم دائماً من الاختلاط والدعوة إلى المنزل أو الاشتراك معهم في ألعابهم.

وهناك مشكلة يتعرض لها بعض الأطفال عند التحاقهم بالمدرسة، وهم فئة من الأطفال تربوا تربية خاصة، تربية تقوم على الحماية والرعاية البالغة. فأمثال هؤلاء الأطفال يكونون في العادة ذوي نعومة ورقّة وحساسية شديدة، لا يقوون على المقاومة والتنافس في المدرسة أو رد العدوان أو حماية أنفسهم، فنجدهم ينتحلون المعاذير ويظهرون من الضجر والتأفف وعدم الرضا، فتجدهم يشتكون من دورات المياه بالمدرسة، كما يرفضون خلع ملابسهم أثناء دروس النشاط.

وتقع على عاتق المدرسين مهام ومسؤوليات كبيرة، فهم الذين ينظمون العمل المدرسي ويقومون بالإشراف على تنفيذه، ويتوقف نجاح العملية التربوية على عوامل متعددة يجب توفيرها في المدرسة نفسها، مثل عمر المدرّس وما يصحبه من نضج عقلي، واجتماعي، وما يترتب على ذلك من توازن انفعالي، وتماسك في شخصيته واتجاهاته نحو الأطفال، وكذلك جنس المدرس من حيث أنه ذكر أو أثنى، يلعب دوراً هاماً في تكوين شخصيات التلاميذ والتلميذات.

والحالة الاجتماعية للمدرس عامل يؤثر على توجيه سلوك الأطفال وتكوين شخصياتهم. فالزوجة التي تقوم بمهمة التدريس، إلى جانب عملها المدرسي واجبات أخرى، فهي زوجة وأم، ويلاحظ أنها كثيراً ما تفقد أعصابها نتيجة للمنازعات التي تحدث في المنزل، والتي تنعكس نتائجها دون شك على عملها في المدرسة. وقدرة المدرس على فهم الأطفال المشْكِلين عامل مهم في نجاح العملية التربوية. فالطفل المشكل هو الذي يعمل على إثارة الفوضى في قاعة الدرس، ومن بين مشكلات الأطفال الأخرى القلق والخجل والضيق وكثرة الحركة والأوهام والمخاوف… إن هذه المظاهر إذا ما تأصلت في نفوس التلاميذ كانت عاملاً هاماً في اضطراب سلوكهم من جهة، وانحلال شخصياتهم من جهة أخرى.

ومن هنا يجب أن يكون المدرس ذا شخصية متكاملة من حيث قدرته العملية وتمكنه من مادته وثقته بنفسه، وقدرته على قبول ما يوجه إليه من نقد، وقدرته على معاملة تلاميذه بهدوء وسعة صدر، مع شيء من عدم الغضب. ومعنى هذا أن يكون منبسطاً مع نفسه، ميالاً إلى الفكاهة، منشرح الصدر، وألا يكون مثالياً في طباعه، خيالياً في تصرفاته، قادراً على مواجهة الحياة بما فيها من حقائق. فإذا توفرت هذه العوامل في المدرس، سَهُل عمله، وغدت إرشاداته لتلاميذه مقبولة، وتأثيراته في سلوكهم عملية.

ومن العوامل التي تؤثر في المدرسة كمجال لنمو الأطفال الاجتماعي سعة المدرسة، أي ما تحتويه من تلاميذ. إن كثرة عدد التلاميذ في المدرسة، ولاسيما في الفصل الواحد »الشعبة« بصفة خاصة، لا يساعد على تكوين شخصياتهم أو بث روح الثقة في نفوسهم، فالتلميذ يتلاشى وسط تلك المجموعات الضخمة من التلاميذ، كما أن اختلاط تلاميذ المرحلة المتوسطة مع تلاميذ المرحلة الأولى يخلق جوّاً غير طبيعي بالنسبة للتلاميذ الصغار.

ويجب أن يتحقق للطفل في المدرسة الكثير مما يتحقق له في المنزل، من عطف الكبار وتقديرهم، سواء كانوا معلمين أم إداريين، حتى يتحقق له الشعور بالأمن والطمأنينة والبيئة الصالحة للتعلّم والشعور بالنجاح والتقدير نتيجة هذا التعلّم.

ومنذ اليوم الأول في المدرسة، يجب تعويد التلاميذ على الدخول والخروج إلى الشُعَب وإلى المدرسة في الوقت المحدد، وتحديد ساعة الانصراف إلى البيوت في الوقت المحدد، وأن يكون الأولياء على علم مسبق بذلك، حتى لا يتعرض أطفالهم لحوادث الطرق وما إلى ذلك من المشاكل وقت الانصراف من المدرسة.

وفي اليوم الأول من المدرسة يجب أن تكون الإدارة على علم بالتلاميذ أصحاب العاهات والأمراض والمعوقين، لمساعدتهم وإسعافهم أثناء الحاجة، وعلى أولياء التلاميذ إعطاء المعلومات الصحية والنفسية والاجتماعية عن أبنائهم لإدارة المدرسة، حتى تتعاون إدارة المدرسة معهم في الساعات الطارئة لإسعاف أبنائهم.

تبدأ مشاكل التلاميذ من اليوم الأول في المدرسة، فنجد الأطفال العدوانيين، غير المتوافقين في سلوكهم، يرغبون في أن يكونوا محط الأنظار. فهم يتطلبون اهتماماً من المدرس. ومن الأسباب الشائعة للسلوك العدواني أن الطفل لا يلقى اهتماماً كافياً بما يطلبه، وقد يعزى هذا إلى انهماك الآباء وانشغالهم في حياتهم الخاصة، أو أن الطفل ليس جذاباً نسبياً إذا قورن بالأطفال الآخرين في الأسرة. أو لنبذ الوالدين للطفل بسبب ما يحسون من ضيق انفعالي، وقد تكون أنماط السلوك التي تشجعها الأسرة سبباً من أسباب العدوان، وقد يكون إعجاب الوالدين بالنشاط الذي يظهر في سلوك أطفالهم سبباً لذلك.. وهم يعتقدون في إخلاص أن العدوان أساسي للطفل، لكي تعترف به الجماعة. ومن ثم فإنهم يشجعون الطفل على القيام بهذا النوع من السلوك الاعتدائي.

ولذا ينبغي على المدرس تقدير أي عمل يستحق الاهتمام بطريقة غير مباشرة، وفي الوقت نفسه أن يجنب الأطفال المواقف التي تبعث في نفوسهم الاستجابات العدوانية عن طريق الإفصاح والتعبير كالتمثيليات.. أما الأطفال الذين يميلون إلى الانسحاب من نشاط حجرة الدراسة، فهم أكثر حاجة إلى اهتمام المدرسة من الأطفال العدوانيين، وغالباً ما يظهر هؤلاء الأطفال خجولين جبناء.. فأفكارهم ومشاغلهم تتم داخل أنفسهم دون أن تتاح لهم فرصة إعادة بنائها باتصالها بتفكير الجماعة. وكثيراً ما يكون تفكير هؤلاء الأطفال الجبناء مرتبكاً لعجزهم عن الحصول على عون من الآخرين، وكثيراً ما يزيد الخيال الخصب المشكلة تعقيداً.. فهم بحاجة إلى مزيد من التشجيع وإلى إظهار بوادر الثقة بأنفسهم.

وهكذا فالمدارس مصانع للحياة الاجتماعية، ومصانع للتعلّم، ذلك لأنها تهيئ الجو الصالح للأطفال ليتعلموا كيف يتعاملون مع غيرهم، ويتحملون المسؤولية.. فالطفل ينفصل لأول مرة عن والديه لمدة لم يكن قد ألفها من قبل، وهذا يعني أن الطفل يواجه الآن مواقف جديدة، ويصل إلى أحكامه دون معونة والديه، ويجد الفرصة أمامه لينشر جناحيه.

وهكذا قد تستخدم أوقات الغداء وطريقة تناول الطعام وأوقات الراحة واللعب والغناء والقراءة والنشاط الرياضي والمشروعات والأسر المدرسية والعمل بالفصل المدرسي، لتزويد الطفل بخبرات متعددة شاملة جوهرية، ويمكن اعتبار الفصل المدرسي »أي الشعبة« مجتمعاً مثالياً صغيراً، فيه يتعلم الأطفال كيف يعيشون، وكيف يعملون، وكيف يلعبون، فهو بذلك مكان مثالي للنمو الاجتماعي.

فمن الأمور التي يستطيع المدرسون القيام بها في هذا الجو المثالي ليوجهوا الأطفال نحو هدف التكيف والنضج الاجتماعي قدرتهم أن يمهدوا الفرصة لظهور الميول والقدرات الفردية، ومساعدة الطفل في مواجهة مشكلاتهم الشخصية، ليكتسب بذلك ثقته بنفسه، وقبول زملائه له.

وفي مقدورهم أن يعلموا الأطفال التفكير الصحيح، بأن يناقشوا معهم مشاكل تتصل بهم اتصالاً مباشراً.. وفي مقدورهم أن يكسبوا الاتجاهات الديمقراطية.. وفي مقدورهم أن يتعاونوا مع الآباء لفهم ودراسة أطفالهم دراسة واضحة.

العدد 1104 - 24/4/2024