الاتحاد السوفييتي حجر الزاوية

الواقع أن المرء لا يستطيع أن يقدر البطولة السوفييتية قدرها، ويفيها حقها، ما لم يحسب القوى الضخمة التي تألبت على الاتحاد السوفييتي، وفي طليعتها ألمانيا النازية، ثكنة الجيوش ومصنع الأعتدة.

نظرة عجلى على الموقف الحربي يوم أغار النازي على أراضي السوفييت. إن الجيش الألماني وقد اجتاح أوربا من أقصاها إلى أقصاها، باسطاً عليها طاعونه، كان مأخوذاً بنشوة نصره الخاطف، مؤمناً بأسطورة عظمته العسكرية موقناً بأن لا غالب له: لقد عصف به الغرور حتى كأن به مسّاً من جنون. أما الجيش الأحمر الذي لم يسبق له أن خاض كالمعارك الكبرى التي تمخضت عنها هذه الحرب، فلم يكن يومذاك تام الحشد والأهبة، عدا أنه جيش حديث النشأة والتعبئة والدربة.. لكن نبادر إلى القول إن شيئاً من ذلك لم يغير وجه المسألة، فها هو الجيش الأحمر يزحف اليوم من نصر إلى نصر، ميمماً شطر الغرب: لقد أردتموها حرب إبادة، كما قال ستالين، فخذوها حرب إبادة!

لا مراء في أن البطولة السوفييتية أحد العوامل التي تحملنا على مصادقة الاتحاد السوفييتي، وهو عامل ذو شأن، لكن هذا العامل، وإن يكن متأصلاً بعيد الغور في النفس الإنسانية، فهو في الوقت ذاته ساذج بسيط، وثمة عوامل أخرى تسنده وتؤيده.. إن من يُلقى عليه السؤال في بلادنا، إذا كان عنده مسكة من العلم بما يقع في الدنيا، يجيب قائلاً: (إن الاتحاد السوفييتي قد ساهم في حماية بلادنا من أن ينزل بها من الكوارث والمحن، مانزل بالأراضي البلجيكية أو الفرنسية أو النرويجية أو اليوغسلافية). وهذا حق لا جدال فيه، لولا أن في لفظة (المساهمة) شيئاً من التواضع، لابأس بأن نقول إن الاتحاد السوفييتي كان عاملاً رئيسياً على إنقاذنا من ويلات الحرب، ومما هو أدهى، أعني: ويلات الاحتلال النازي.. هكذا كان نصيبنا من هذه الحرب الخبوط اللبوط، صفارات إنذار نسمعها حيناً بعد حين، وفي التمارين على الأغلب.

فإذن من الدعائم التي تقوم عليها صداقتنا للاتحاد السوفييتي عرفاننا بجميل أبطال ستالينغراد، وفرسان الجيش الأحمر، الذين بعد أن أبادوا مئات الألوف من النازي، يضربون اليوم في أقفية قطعانهم المنهزمة شطر الغرب، كأن القيادة الألمانية العليا غيرت رأيها فجأة، فاعتزمت أن تسدد آخر هجماتها إلى ألمانيا، حيث تسلم النفس الأخير. إذن من الدعائم التي تقوم عليها صداقتنا للاتحاد السوفييتي أن شجاعة الجيش الأحمر وصلابة الشعوب السوفييتية ومتانة نظامها، كل ذلك كان أمنع السدود بيننا وبين الحرب، بل بيننا وبين أفظع من شَنَّ الحروب، واضطهد الشعوب -أعني النازية أيضاً-. سوى أنني أعتقد بأن هذا السبب -على وجاهته- لا يعتبر كافياً لمصادقتنا الاتحاد السوفييتي، فهو قد يكون عارضاً يمضي بانتهاء الحرب، بل قد يزول بزوال خطر الحرب. ينبغي أن نبين الأسباب الدائمة التي تنشأ عنها صداقة باقية. وهنا لابد من التفاتة حول الموضوع، نرسل خلالها نظرة بل نظرات، نحو هذا الصديق العظيم: الاتحاد السوفييتي.

لقد حلمت البشرية منذ أجيال، بعالم غير عالمنا، خلو من الفقر والظلم والجهالة، يعمل فيه الناس جميعاً ويبذلون خير جهودهم، ويتمتع فيه الناس جميعاً بأكمل الفرص للتطور والازدهار، جماعات وأفراداً، متكافلين متضامنين. وإن الاتحاد السوفييتي لأعظم خطوة، بل قفزة قفزها التاريخ نحو هذا المثل الأعلى، فهو يحمل في صدره التراث القديم، تراث الشوق إلى المدينة الفاضلة.

إن المبدأ الأساسي القائل إن الإنسان هو محرر العالم وأثمن ما فيه، وإن مبادئ الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية، وإن رسالة الديمقراطية الصحيحة، وإن النهضة العلمية التي تستهدف السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخير الناس، كل هذه العناصر قد اجتمعت، كأنها على موعد لقاء، في نظام الاتحاد السوفييتي.

 

من محاضرة الأستاذ عمر فاخوري في فندق النورماندي ببيروت عام 1943

العدد 1105 - 01/5/2024