خارج الخدمة

حين شرّفتنا حضارة التكنولوجيا وأسبغت علينا نعمة الصرّاف الآلي كان ذلك عيداً عندنا، نحن أصحاب الدخل المحدود، فقد ارتحنا من الانتظار أمام السيد المحاسب كل شهر، وخسر هو هذه الميزة، ميزة التباهي أمام هذه الحشود المنتظرة أن يمنّ عليها برزمة من (أمّهات الطربوش).

الآن نحن أمام الحضارة وجهاً لوجه، لن نحتاج إلى العدّ، مع أننا نفعلها أحياناً لنتأكّد من الثقة التي منحناها للسيّد الصرّاف، وهو أيضاً لن (يزعل) منا، فهذا حقّ لنا مكتسب من ضعف الثقة بالمحاسبين التقليديين. ولن نحتاج أيضاً إلى التوقيع إشعاراً باستلامنا مرتبنا الشهري، فهو يثق بنا، وبهذا يتفوّق علينا، فالثقة ليست متبادلة دائماً.

في بداية كل شهر تستنفر الصرّافات حقائبها الممتلئة، ونستنفر جيوبنا الفارغة. نهرع إلى أقرب صرّاف آلي لنقبض على راتبنا من عنقه النحيل، وسرعان ما ينزلق إلى جيوب وحقائب أخرى من أصحاب الدخل غير المحدود. ننتظر أمام الصراف في طابور أطول بكثير من الطابور أمام المحاسب التقليدي، وحين تقترب أدوارنا تبادرنا الشاشة المضيئة لوجه الصرّاف، وتعتذر عينه الوحيدة المدوّرة كاتبة (عذراً الصرّاف خارج الخدمة) يعني (روح شوف صرّاف غيري) حينذاك نتذكّر المحاسب التقليدي، الذي سرعان ما يتناول حقيبة أخرى ممتلئة بعد فراغ الحقيبة الأولى، ولا نضطرّ للذهاب إلى محاسب آخر.

تكتئب وجوه المتجمهرين وينطلقون إلى أقرب صرّاف. ولأنني لا أطيق التزاحم حتى أمام الأفران أترصّد صرّافاً منعزلاً وأهرع إليه، فصاحب البيت الذي أستأجره لا يقدّر ولا يصدّق أنني لم أقبض مرتبي بعد، المهم أنني أهرول باتجاه السيّد الصرّاف، أهرول لأنني أخشى الركض السريع بعد عملية الديسك، أمتلئ بالفرح حين أفاجأ بأنني الوحيد هنا، ولا أحد سيزاحمني، ولن أنتظر الدور، أدفع البطاقة الإلكترونية في مكانها المخصص، لكنها سرعان ما تعود وتخرج، وتضحك عين الصرّاف النعسانة كاتبة (الرجاء التوجه إلى صرّاف آخر) يعني (حلّ عن سماي وخلّيني نايم، يا أخي روح شوف غيري)!

رحم الله أيام زمان، كان المحاسب واحداً، تستطيع التفاهم أو الاختلاف معه، لكنك لا تخرج قبل القبض على الراتب. المهم أن المسير يبدأ من جديد، وتبدأ آلام الظهر بالتنبيه أنني أمام مشكلة إن لم أسترح، أجلس فوق رصيف مرتفع وأتذكّر أيام القبض الورقي. وفي الصرّاف الآخر تطالعك شاشته مرحّبة ومعتذرة (هناك مشكلة في الصرّاف يرجى التوجه إلى صرّاف آخر) يعني (ما حلّك تفهم؟!) أعود إلى الرصيف وأجلس، تعبر أمامي وفود الموظفين باحثة عن صرّاف شغّال، يسألونني فأبتسم، ويبتسمون.

ولأن موعد قطع الكهرباء اقترب، عليّ الإسراع في عمليّة البحث، وعدم الاستسلام لآلام الظهر، فأنهض وأمضي خلف مواكب الموظفين. ولأنني لم أتعوّد لوم أحد، أمشي دون أن أجهر بالشتائم، ذلك لا يليق بموظف حكومي، ولا يليق أيضاً برجل تجاوز الخمسين من عمره، ويفترض أنه محترم. وحين أفكّر تفكيراً إيجابياً لحلّ هذه المشكلة الشهرية تبرز مشكلة أخرى، هي سهولة الحلّ، وهذه هي المشكلة الأهمّ التي تجعلني راغباً بالصراخ والشتائم (يا أولاد ال… كتّروا الصرّافات، وكبّروا الصناديق شويّ بتنحلّ المشكلة)

منذ سنوات قليلة كنا نقبض الراتب ونوقّع أمام المحاسب فنشعر بوجودنا، بوجود أرواح تتعامل فيما بينها، أما الآن فنشعر بأن أرواحنا ستخرج أمام هذا السيّد الحديدي العنيد، وهو غير مهتم بنا ولا بأرواحنا إن خرجت أم لم تخرج. وأيام آبائنا كانوا يقبضون (فرنكاتهم) ويبصمون بالإبهام الأيسر، وكانت تلك (الفرنكات) مباركة بحيث تُشبع بطوناً عدّة لمدّة شهر كامل. أما الآن فما تبقّى من روحك لم يُطلعه الصرّاف الآلي سيتكفّل به البقّال وفواتير الكهرباء والهاتف و… والله يرحم أيّام القبض على البصمة!

العدد 1105 - 01/5/2024