تجديد الخطاب السياسي

إثر ما سمي بـ(الربيع العربي) بدأت تكثر مقولات تجديد الخطاب السياسي. فالبعض يطرح التجديد على أساس أنه ضرورة موضوعية وذاتية.. يحمل رسالة وينشر أيديولوجيا، وهي عملية مستمرة لا بد منها.

والبعض الآخر يطرحه على أساس أنه قارب نجاة يلحقه بركب (الثورة)!

وربما يحمّل البعض الخطاب السياسي أكثر مما يحتمل، ويخلط بين تجديد الخطاب وتجديد الخطاب السياسي، ولكنني أرى الأولوية في دراسة العوامل الموضوعية والذاتية وخصائص كل بلد، والتركيز على الانفصام العميق بين الثقافي والسياسي وكيفية مقاربته، والنقد المستمر لأسس الفكر السياسي، أي التفكير في دور الدولة والقانون والعدالة وأسس الحكم على ضوء الممارسة والتطبيق.

وليس من نافذة إشاعة اليأس، فإنني أطرح السؤال التالي: إذا كان الخطاب السياسي لأي حزب من الأحزاب مقارباً للحظة السياسية والاجتماعية الراهنة، وأخص أكثر حزبنا الشيوعي السوري الموحد  فهل سيفوز في الانتخابات؟

أجزم بأنه لن يفوز، لأن الفوز يتطلب ظروفاً موضوعية سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها إضافة إلى العوامل الذاتية ومنها خطابه السياسي والاجتماعي.

ولست هنا بصدد التوقف عند هذه الظروف، لأنها تحتاج إلى صفحات كثيرة (في بلادي على الأقل) رغم المشتركات الكثيرة والمتقاطعة في البلدان العربية. وباختصار فإننا أمام ضرورة بذل المزيد من الجهد النظري والعملي وتجديد وتطوير آليات التواصل والتفاعل مع الجماهير الشعبية.

تجديد الخطاب السياسي في ظرفنا الحالي معقد، وملتبس، خاصة أن الخطاب السياسي العربي عموماً أخذ منحى تلقينياً وتعاطياً مع المتلقي كأنه تلميذ، وهذه الثقافة البعيدة عن الحوار الديمقراطي، قد تكون من أصعب المهام التي يجب حلها، قبل التنطح لتجديد  الخطاب السياسي، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، إن جيلنا استمد حماسه السياسي من الانخراط في قضايا الكفاح ضد الكفاح ضد الاستعمار، وتطلع لبناء مجتمع وثقافة وطنية وحتى طبقية، مما جعل أبواب الأمل مشرعة، رغم العثرات والخيبات بعد الاستقلال، وفي القرن الماضي أجهضت إلى حد كبير الأسئلة التي رافقت مشروع النهضة العربية: فشل في حل القضية الفلسطينية، احتلال بيروت  احتلال العراق  إضافة إلى وضع دولي اتسم بانهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وسيادة القطب الواحد، وصعود الأفكار الدينية المتطرفة، وأفكار الليبرالية الاقتصادية الجديدة والتجارة الحرة، وتطور وسائل الاتصالات الحديثة وتنوع مصادر المعلومات، وتفوق المرئي على المقروء والمسموع. كل هذه العوامل الداخلية والدولية، تستدعي التوجه نحو الشباب المسؤول عن بناء المستقبل، وذلك يتطلب مساعدته على امتلاك الأدوات السياسية والاجتماعية والثقافية بسرعة تسمح له بتشييد وإنتاج المستقبل. لذلك لا يمكن أن يكون تجديد الخطاب السياسي مبنياً على أسس جزئية أو ترقيعية، وإنما هو إشكالية تحتاج إلى تقييم الموروث والتفاعل مع الديناميكية المتحكمة في إدارة صراعات العالم، ومواجهة الفكر الرأسمالي المتوحش والأيديولوجيات التي يتوقف عليها مصير الإنسانية والتطرف الديني، بمعنى ثورة لا تعتمد الحروب والعنف والإرهاب. لأن الإصلاح إذا اعتمد العنف فهذا يعني وثورة تبدل ما هو قائم، ويضعنا أمام المجهول المخيف، ما لم تكن القوى المجتمعية مهيأة لإنجاح الإصلاح.

وهذا ما نشهده بعد ما يسمى (الربيع العربي). خاصة أننا شهدنا في العقود الثلاثة الأخيرة بروز ظاهرة الحركات المتطرفة، التي استولت على جزء هام من الرأي العام نتيجة للفشل الواضح للنظام العربي على اختلاف أشكاله، وايضاً بسبب تقصير الحركات الوطنية واليسارية بشكل خاص، حتى من جدد منها خطابه السياسي.

يقولون غاية السياسة هي الحياة من أجل الحرية، وليس الحياة لمجرد الاستمرار في البقاء. لذلك قالوا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

من هنا فإن الخطاب السياسي عموماً يحتاج إلى أسس ومقومات وخصائص ووظائف وأهداف، وتجديده وثيق الصلة بإنتاجه وتصريفه وتفعيله، ولغة الخطاب فن وعلم وباعتبارنا نتحدث عن الخطاب السياسي، فإن لغة السياسة ليست رومانسية كما في لغة الأدب، ولا دقيقة كما في لغة الاقتصاد، إلا أنها يجب أن تدخل إلى عواطف وفكر المتلقي ليتأكد أنها لمصلحته.

ويقول لاكوف: (السياسة هي اللغة واللغة هي السياسة).

والسياسة ممارسة يومية يقوم بها أفراد المجتمع بمختلف شرائحهم.

ويقولون إن الخطاب قد يحرك ساكناً، ويسكّن متحركاً، أو (يقيم الدنيا أو يقعدها). وهناك جملة أو شعارات يمكن أن تؤثر في أوساط الجماهير وتفعل فعل السحر، لبساطتها وعمق معناها وتأثيرها.

والأمثلة في التاريخ القديم والحديث تعج بمثل هذه الخطابات والشعارات، فعندما قال ماركس: (يا عمال العالم اتحدوا)! وأضاف لينين إلى هذا الشعار (يا عمال العالم وأيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا).

كان لها فعل مؤثر، وكذلك مارتن لوثر كينغ عندما قال في إحدى خطبه في عام 1963: (أنا لدي حلم)، كان لكلماته فعلاً ساحراً في صفوف الزنوج في أمريكا، وكذلك الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، عندما رفع السلاح قائلاً: (هذا هو الطريق) مما ساهم في إشعال ثورة الحجارة، وغيرها الكثير. والكلمات والشعارات ليست هدفاً بذاتها، وإنما تحتاج إلى الحنكة والموضوعية واختيار الظرف المناسب.

فعندما اعتقد ماركس بأن الثورة الاشتراكية ستنجح أولاً في بريطانيا وألمانيا باعتبارهما دولتين صناعيتين وتضمان ملايين العمال، نجد أن لينين استطاع بحنكته ودراسته لواقع روسيا بالاعتماد على رفاقه وحزبه، أن يقود أول ثورة اشتراكية في روسيا البلد الذي كان غالبية سكانه من الفلاحين.

ولما كان الخطاب السياسي هو النافذة التي يطل منها المتلقي على الحزب ونشاطه وهو الرافعة الأساسية لعمل المنظمات السياسية، فمن الهام والضروري تكريس روح الوطنية والاهتمام بالمواطن البسيط، والبحث عن القواسم المشتركة لإنهاء الحروب ومراعاة مصلحة الوطن والمواطنة.

هل يجب علينا تجديد خطابنا السياسي..؟

 نعم، فالثبات هنا يعني الفكر للفكر والطبيعة وما يحدث في الواقع.

العدد 1105 - 01/5/2024