الحزب.. والتاريخ… والأزمة

لا شك في أن الأزمة الوطنية الكبرى التي تعصف ببلادنا تركت آثارها العميقة، على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحزبية..

ما يهمنا في هذه المقالة العجالة، هو دور حزبنا، وما هو المطلوب منه في هذه المرحلة الدقيقة.

تجدر الإشارة، بداية، إلى أن تاريخ الحزب الشيوعي السوري خلا من ممارسة أية ظاهرة عنيفة، سواء في علاقاته مع القوى السياسية، أو في موقفه من الأنظمة السياسية المتعاقبة، بعد الاستقلال. وساهم الحزب منذ نشوئه بمعارك مشرّفة من أجل الاستقلال الوطني، ودحر القوات الاستعمارية المحتلة، وضد الديكتاتوريات العسكرية. وفضح الحزب الصهيونية ونشاطها وعملاءها من القوى الرجعية والظلامية. فقد كانت مصلحة الشعب والوطن تحدد مواقفه السياسية وتحددها ، ودفع ثمن تلك المواقف العديد من الشهداء، وكثيرين من أعضائه دخلوا السجون والمعتقلات، ونظر إلى القوى الوطنية الأخرى، بوصفه أحزاباً تكونت تاريخياً، وعمل لإقامة الجبهة الوطنية في أواسط الخمسينيات، ثم الجبهة الوطنية التقدمية في أواسط الستينيات، وكان العمل المشترك أحد المحاور السياسية الأساسية في مجمل عمله ومواقفه السياسية.

لقد صاغ حزبنا في المؤتمر الثالث ،1969 شروطه الثلاثة للعلاقة مع القوى السياسية الأخرى، وهي:

1 التعاون مع جميع القوى الوطنية.

2 الدفاع عن مطالب الجماهير والفئات الفقيرة.

3 الحفاظ على وجه الحزب المستقل.

لقد حاول الحزب أن يوفّق بين الأسس الثلاثة المذكورة في علاقته مع أية قوة سياسية أخرى، لكن هذه العلاقة اتسمت بترجيح واحد على حساب الأخرى، تبعاً للظرف الموضوعي، وكان الهم الوطني والمعيشي للفئات الفقيرة هو الناظم لمجمل عمله، لكن نستطيع القول إن الحزب استطاع التوفيق في شروطه الثلاثة بشكل مقبول، وصاغ سياساته استناداً لأيديولوجيته ولضرورة الظرف الراهن، ولم تخضع علاقاته السياسية العامة، لمناورات أو عواطف، وكلنا يتذكر مواقف الحزب من (اتفاقية شركة تريبكو، عام ،1975 ومن التدخل السوري في لبنان  ومن انتخابات عام 1981 التشريعية) والعديد من المواقف السياسية المشرفة، وكان آخرها الموقف من الأزمة الحالية، التي وصفها بالأزمة المركبة وفصّل في شقيها الداخلي والخارجي.

وعندما نتحدث عن انتفاء العنف من سياسات حزبنا، لا نغفل اشتراك الحزب في المعارك الوطنية الكبرى، فقد قدم الحزب أكثر من ثمانين شهيداً في حرب تشرين عام 379_# والعديد من الشهداء من الرفاق الذين تطوعوا وناضلوا في صفوف المقاومة الفلسطينية عام ،1982 إذاً، في العلاقة السياسية مع الآخرين، كان الحزب يسعى دائماً لتوسيع القواسم المشتركة وتعميقها، والقيام بمبادرات، أما في المعارك الوطنية الكبرى فكان أعضاؤه في الصفوف الأمامية للدفاع عن الوطن والشعب.

 

دور الحزب اليوم وغداً

الآن، بعد أن توضحت أبعاد الأزمة، وفصولها وامتداداتها، كان واضحاً احترام القوى السياسية لمواقف حزبنا الشيوعي السوري الموحد، الواعية والناضجة  حسب اعتقادي  باتجاه تحقيق حل سياسي للأزمة بالطرق السلمية، وعبر توافق السوريين، لكن ما هو المطلوب من الحزب حالياً؟

أ سياسياً:

الاستمرار في سياسته الراهنة، مع تصويبها وتصليبها بما يخدم مصلحة الشعب والوطن، والقيام بمبادرات مشتركة وفعاليات مع القوى السياسية الأخرى التي تنبذ الإرهاب والعنف، وتكثيف الجهود باتجاه الإقرار بضرورة الحل السياسي، فالشعب السوري يريد الخلاص عبر الحوار والتفاهم، للوصول إلى الأمان والسلام.

ب  اقتصادياً:

لا يزال الحزب يتمسك بدور أساسي للدولة الدولة في إدارة مفاصل الاقتصاد الأساسية، ويرفض الليبرالية الاقتصادية، ويسعى دائماً لزيادة دور الدولة الرعائي تجاه المواطن. يجب تعزيز هذه الاتجاه للحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ج  داخلياً:

في اعتقادي، يجب على الحزب تعزيز هذا الاتجاه، الذي يتجلى في المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الوطنيين، وإجراء المصالحات، ورد المظالم لأصحابها، والتعويض للمواطنين الذين تضررت ممتلكاتهم، والتمهيد لعودة المهجرين واللاجئين، كل ذلك يساعد في انحسار الحاضنة الشعبية للمجموعات المسلحة.

د  فكرياً:

خطا الحزب خطوات هامة عبر جريدته (النور) في فضح الإسلام السياسي وتلطّيه خلف الدين، فالصراع الفكري الحالي امتد في كل الاتجاهات وهو مفتوح ومؤثر، وما نلحظه ونشاهده من إجرام التكفيريين، وتأثيرهم الفكري على عشرات الآلاف من الشباب، وزرع البغضاء والعنف والقتل لكل من يخالفهم الرأي أو العقيدة، كل ذلك يطرح بقوة مسألة في غاية الأهمية، وهي إعادة الاعتبار للانتماء الوطني وهو فوق كل الانتماءات. وإذا كان هدف الصراع الذي يخوضه الظلاميون والمتطرفون، تحت راية الإسلام، هو إنشاء دولة دينية وإمارات مذهبية، فإن سورية، بمكوناتها المتنوعة، لن يعيش فيها إلا دولة مدنية ديمقراطية تضمن تكافؤ الفرص لكل السوريين، فالنضال الفكري التنويري تبرز ضرورته، لفضح زيف الادعاءات وغيل الأدمغة، وانتشال الوعي، ونشر ثقافة التسامح والسلام، وتسليط الضوء على الحياة السياسية، والاجتماعية والثقافية من منظور علمي في تفسير جميع الظواهر الطبيعية، كل ذلك يشكل تحدياً كبيراً أمام الحزب وجميع القوى والفعاليات الوطنية، لسحب البساط والذرائع من قوى التطرف والإرهاب، ونبذ الخرافات والمعتقدات البالية والسعي لنشر وإقرار أفكار المواطنة، وفصل الدين عن الدولة والسلطات، وبناء الدولة الديمقراطية المدنية العلمانية. وهنا نود أن نؤكد أن الحزب، عندما يتكلم عن فصل الدين عن الدولة، لا يعني فصل الدين عن المجتمع.

ه  حزبياً:

على مدى سنوات الأزمة، تعرض عمل الحزب وبعض هيئاته، لخلل واضح في الاتصال مع الرفاق والمنظمات..

إن عودة الرفاق للتواصل مع الحزب ضرورة وهامة جداً، وتساهم في تصليب سياسة الحزب، فالشيوعيون هم دائماً في صلب الحركة الوطنية، وابتعادهم يضعفها. وهنا أجد لزاماً علي دعوة الرفاق للدفاع عن خط الحزب في التغيير الوطني والديمقراطي في سورية، الذي هو مستقبل بلادنا. إن مشروعنا الوطني الحالي يتجلى في حماية وطننا الذي يتعرض لأخطار هائلة قد تطيح بوحدته، ولا يصح وجود الشيوعيين إلا في قلب المعركة، للسير ببلادنا نحو مستقبل سورية الديمقراطي العلماني المدني.

أعتقد أن الحزب استطاع في المفاصل الأساسية للعمل السياسي والحزبي، بناء سياسته دون تردد، استناداً إلى خلفيته الفكرية والسياسية، لكن هذه السياسة لم تجد انعكاساً إيجابياً لدى بعض الرفاق، وهذه مسؤولية الرفاق، والحوار الحزبي كفيل بحل هذه المسألة.

إن الحزب بوصفه فعلاً جماعياً استطاع تحديد الجوهري في الأزمة، وسياسته عكست بدرجة كبيرة تناسباً صحيحاً بين الداخلي والخارجي، وحملت الكثير من المبدئية والواقعية لم نستطع عكسها كما يجب في صفوف الجماهير، وهذه مسؤوليتنا.

أدعو رفاقي لتمتين علاقاتهم بالحزب، والمساهمة في تصليب سياسة حزبنا،فالوطن بحاجة إلينا، وشعبنا بحاجة إلى جميع قواه الوطنية.. واليسارية، بعيداً عن أنفاس من لوث هواءنا بالأحقاد والكراهية والطائفية البغيضة.

 

العدد 1107 - 22/5/2024