غزة… حكاية مدينة مقاومة

قال الجنرال الصهيوني موشي دايان – ذات يوم – لأحد الصحفيين: (إن مفتاح أي مدينة ليس أكثر من قطعة من الحديد تلقى تحت جنازير الدبابة الاسرائيلية فتأخذ شكل المفتاح الذي تريده.. ولباب المدينة التي نريد فتحها..). ولكن الحقائق أثبتت أن جنازير دبابات أساطين الإرهاب الصهيوني من دايان وصولاً إلى نتنياهو، قد أخذت تدوس على شيء آخر غير قطعة الحديد.. نعم لقد داست الدبابات بإرادة وعزيمة قوى المقاومة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة المحتل على أحلام قادة الإرهاب العالمي من بني صهيون وجحافلهم من قتلة الأطفال والنساء والشيوخ في السيطرة على غزة.

ولقد صدق شاعر فلسطين الكبير المناضل الشيوعي الراحل معين بسيسو (ابن غزة البار) حين قال رداً على تصريحات دايان: (إن روح أي مدينة من المدن ووجدانها وضميرها وثقافتها لا يمكن أن تؤلف في عشرات السنين – بل تحتاج إلى وقت أطول كثيراً من العشرات والمئات – فتاريخ أي مدينة والإمساك بالمفتاح الذي يقود إلى حجراتها السرية وإلى مداخلها النفسية والوجدانية يحتاج إلى حقبة طويلة من التاريخ. فالمدينة لا يمكن أن تصنع أو تطبخ هي وتاريخها فوق لهب اصطناعي. بل على ألسنة النيران الهادئة الطويلة وعبر مئات السنين للتاريخ القديم والمتوسط والحديث.. ومدينة غزة بوقفتها التاريخية في وجه الاحتلال الإسرائيلي هي الرد الذي تقدمه المدينة على تلك العجرفة الفاشية..).

وفي نص يعود تاريخه إلى سبعينيات القرن الماضي، يحدثنا رفيق دربه الشاعر الراحل محمود درويش عن غزة، فيقول: (تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر. لا هو موت، ولا هو انتحار. إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة… كلما انفجرت – وهي لا تكف عن الانفجار – خدشت وجه العدو، وكسرت أحلامه، وصدته عن الرضا بالزمن. لأن الزمن في غزة شيء آخر.. لأن الزمن في غزة ليس عنصراً محايداً.. إن غزة لا تتباهى بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها.. إنها تقدم لحمها المر، وتتصرف بإرادتها، وتكسب دمها. وغزة لا تتقن الخطابة. ليس لغزة حنجرة… مسام جلدها هي التي تتكلم عرقاً ودماً وحرائق. من هنا يكرهها العدو حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة.. ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم).

إن غزة التي تعادل تاريخ أمة، مدينة فقيرة صغيرة تقاوم غزاتها، مقاومة شعبية متلاحمة، وعلاقة المقاومة فيها بالجماهير هي علاقة الجلد بالعظم.. وهي مصرة على أن تقول للغزاة: لا.

ومنذ أكثر من نصف قرن ومطالب غزة الجريحة والمحاصرة هي نفسها لم تتغير، نعم إنها هي ذاتها، كما أعلنها القائد المناضل الغزّي معين بسيسو في كتابه: (غزة.. مقاومة دائمة)، الصادر في بيروت، عام 1973)، يقول شاعرنا (أبو توفيق): (إن غزة لا تطالب أي مدينة أن تقدم لها سيفاً من ذهب.. كما قدمت مدينة (لندن) سيفها الذهبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية تحية لنضال وبطولة مدينة (ستالينجراد).. ولكن غزة تطالب بشيء آخر، غير السيف الذهبي أو الفضي، تطالب بحجر واحد يضاف إلى متاريس المقاومة في شوارعها. تطالب بمشط رصاص يضاف إلى عناقيد الرصاص التي تتدلى من أعماق مناضليها. تطالب بحملة على النطاق العربي والعالمي تمكن عيون المئة مليون عربي.. وعيون مئات الملايين في العالم من الإطلال عليها.. فحينما يتحول جرح المدينة إلى شباك فعلى العيون أن تنظر…).

واليوم، تجدد غزة المقاومة والصمود وهي تعيش تحت سقف النار..تحت قذائف الطائرات والمدافع.. مطالبها – وهي مستمرة بالانفجار.. (لا هو موت ولا هو انتحار. ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة).

وفي مقدمة هذه المطالب فلسطينياً رص الصفوف وتعزيز الوحدة الوطنية، والإنهاء الفوري للانقسام وتحقيق المصالحة ومواجهة العدوان والتحديات بقبضة تاريخيه موحدة.

أما عربياً ودولياً فتطالب غزة – في زمن العولمة وبحر الفضائيات – بحملة لا تمكن عيون نحو ثلاثمئة مليون عربي ومئات الملايين في العالم من مشاهدة ما يجري، فكلنا رأى ويرى مدى وحشية العدوان الصهيوني وهمجيته منذ عدوان (الكانونين) في نهاية العام 2008 ومطلع العام 2009 حتى يومنا هذا. وإنما تطالبنا غزة جميعاً بالوقوف إلى جانب أطفالها ببسالة الفرسان، وبكسر جدار الصمت وفك الحصار. ودعم المقاومة لا بالزيارات الوزارية العربية المكوكية، بل بزيارات تنتصر للحق الفلسطيني كزيارة الطائرة (أيوب) لسماء فلسطين.. زيارة مقاومة لمدينة مقاومة، أصبح خبزها يعجن من دقيق البارود.. وأصبح زبدها هو دمها الذي تدهن به رغيف الخبز.

العدد 1105 - 01/5/2024