ثورات وأوهام: هكذا ابتلعت أمريكا الديمقراطية (2من3)

هكذا هيمن رأس المال

لنعد إلى الثورة الفرنسية 1789 وثورات 1848 للحظة، لفهم الصورة بشكلها الكبير، ولفهم ديناميكيتها أكثر، لتفسير كيف انتهى عصر الثورة إلى الفشل، إلى عصر سيطرة وانتصار رأس المال أولاً، ثم إلى عصر الإمبراطورية لاحقاً، والأهم فهم دور الديمقراطية الليبرالية كأداة سحرية في كل ذلك. السياق الكبير لعصر الثورة هنا هو ثنائية الثورة السياسية – الاجتماعية (فرنسا 1789) والثورة الصناعية (إنكلترا). هذه الثنائية هي بالضبط ما أعطى هذه المرحلة التاريخية نوعاً من الوحدة والتناسق. هكذا بدأ عصر الثورة، حسب المؤرخ أريك هوبزباوم: استولدته هذه الثنائية المتناسقة (السياسة/ الاجتماع، والصناعة/ الاقتصاد). لكن هذه الثنائية تفككت لاحقاً في ثورات ،1848 وانتقلت أوربا ومعها العالم من عصر الثورة إلى عصر رأس المال. (تراجعت الثورة السياسية وتقدمت الثورة الصناعية)، يقول هوبزباوم في (عصر رأس المال 1848 – 1875) (ص:15). النتيجة باختصار: (ابتلعت الثورة الصناعية (البريطانية) الثورة الاجتماعية (الفرنسية)) (عصر رأس المال، ص:15).

انتصر عصر رأس المال وأفَلَ عصر الثورة، وطبعاً كانت الديمقراطية الليبرالية هي الأداة السحرية لذلك. في الفصل الرابع من الكتاب الأول من ثلاثية هوبزباوم (عصر الثورة:  1789 – 1848)، يقول: (خلال العشرين عاماً الغريبة (1792 – 1815) تواجه نوعان مختلفان من المتحاربين: القوى والأنظمة. فرنسا الدولة بمصالحها وتطلعاتها واجهت (أو تحالفت في أحيان أخرى مع) دول أخرى من النوع نفسه. وهناك، من ناحية أخرى، فرنسا الثورة التي ناشدت شعوب العالم إطاحة الاستبداد وتبني الحرية، فتصدت لمقاومتها القوى المحافظة والرجعية) (ص: 77). في ما يخص الدولة، وتحديداً في نهاية حكم نابليون، (انتصر عامل التوسع الإمبريالي والاستغلال على عامل التحرر في كل مرة احتلت القوات الفرنسية بلداً ما أو ضمته إليها). في المقلب الآخر، أي الثورة، يؤكد هوبزباوم أنّ (القوى المعادية للثورة قد وصلت إلى قناعة بأنه لا مجال للتراجع عن أكثر إنجازات الثورة في فرنسا، ولهذا أصبحت مستعدة للتفاوض (مع بعض التحفظ) على شروط السلام بين دولة وأخرى مثلها) (ص: 78).

استكمالاً، يذكر هوبزباوم في الكتاب الثاني من الثلاثية (عصر رأس المال: 1848 – 1875) تَعَرُّض ثنائية الثورتين السياسية والصناعية الأولى للتفكك. تراجعت الثورة السياسية وتقدمت الثورة الصناعية. إنه عصر رأس المال، موضوع وعنوان الكتاب الثاني في السلسلة العبقرية لهوبزباوم – سينشر كارل ماركس كتابه الفذ (رأس المال) بعد الثورة/ أو بعد فشلها بعشرين عاماً في ،1867 مع أن المخطوطة، (الغروندريسة)، التي أظنها بأهمية الكتاب نفسه، رغم هيغليتها التي اختفت في (رأس المال) البنيوي، نُشِرَتْ في ،1859 أي بعد عشر سنوات فقط.

في هذا السياق الجديد، ما بعد ،1848 (ابتلعت الثورة الصناعية (البريطانية) الثورة الاجتماعية (الفرنسية)). ابتلع رأس المال الثورة. نعم ابتلعها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. هنا بدأت القوى الاجتماعية المنتصرة الصاعدة التي كانت ترعبها جداً فكرة الديمقراطية في البداية، ترى أنّ هذه الديمقراطية بشكلها البرلماني الدستوري قد لا تكون ضارة لمصالحها في نهاية الأمر – قد تكون مزعجة أحياناً، نعم، لكنها غير ضارة (قبل ذلك، كانت الطبقة الوسطى تخشى الناس وربما كانت تقرف منهم أيضاً كعادتها، أما رأس المال فكان يرى الديمقراطية سبيلاً ممكناً للاشتراكية التي كانت ولا تزال ترعبه – هذا جدل خاضه الاشتراكيون الألمان في بداية القرن العشرين ويفيد جداً ربما العودة إليه اليوم). لم ينتبه الأوربيون حينذاك إلى أنّ أقرانهم الأمريكيين كانوا قد اكتشفوا تلك الحيلة قبلهم بسنين طويلة ومارسوها ولا يزالون حتى يومنا هذا. النتيجة: هل يمكن القول إنّ ثورة المستوطنين البيض في أمريكا الرأسمالية ابتلعت عبر نموذجها الديمقراطي الدستوري كل أمل بديموقراطية اجتماعية بشرت به الثورة الفرنسية؟ مؤقتاً، نعم. لكن هذا كان ممكناً لأن أمريكا قوية، ولأن النظام الرأسمالي العالمي يجعل من إمكانية كبح الصراع الاجتماعي، أو حتى نزع فتيله، في الغرب وفي أمريكا ممكناً، أيضاً، مؤقتاً.

ثلاث قضايا تجمعت هنا وأعطت الديمقراطية الدستورية الأمريكية القدرة على ابتلاع كل شيء. في أمريكا قامت هذه الديمقراطية أساساً على تشريع العبودية والتطهير العرقي والاستيطان الأبيض. نعم، كان نظاماً ديموقراطياً ذلك الذي استعبد عشرات الملايين من الأفارقة وطهّر عرقياً، ولاحقاً ثقافياً، مثلهم من السكان الأصليين. نعم، هو نظام ديمقراطي عمره ثلاثمئة عام ذلك الذي لا يزال يميّز ضد الأقليات والمرأة والفقراء ويضطهدهم. نعم، هو النظام الديمقراطي ذاته الذي ساند نظام الفصل العنصري القذر في جنوب أفريقيا حتى اللحظة الأخيرة، كما يساند الكيان الصهيوني اليوم، وهو الذي دمّر العراق مرتين وحرق أطفال فيتنام بالنابالم، وحاصر وجوّع كوبا خمسين عاماً وعادى كل حركة تحرّر في العالم.

في أوربا، سُحقت كومونة باريس، (المثال الثوري الوحيد في دولة متقدمة. وسحقها أنتج حماماً من الدم أكبر بكثير من أي شيء في 1848) (عصر رأس المال، ص: 15). أرعبتهم الكومونة، ولهذا كان سحقها ضرورة للهيمنة عبر النموذج الديمقراطي هذه المرة، والقضاء على التمرد الحقيقي الثوري الأخير للعمال والفقراء في القارة العجوز. لكن تقدم الثورة الصناعية والتوسع الكبير للنظام الرأسمالي العالمي قد يكون السبب الأهم في تسهيل توفير خيارات سياسية بديلة في (الدول المتقدمة) للديمقراطية – هذا معنى ابتلاع الثورة الصناعية للثورة السياسية وابتلاع ديمقراطية المستوطنين البيض الدستورية في أمريكا لكل ديمقراطية أخرى. ربما كانت نظرية (النظام العالمي) على حق. فالرأسمالية الإمبريالية تمكنت من رشو الطبقات الشعبية ببعض فتات غنائم استعمار ونهب موارد العالم، وثبتت أركان النظام. أصبح بإمكان الغربيين، بعد نهب العالم وسرقة موارده، العيش فوق إمكاناتهم بكثير، وأيضاً الاستثمار بأكثر مما يملكون. أصبح بإمكان رأس المال كبح جماح أي حراك اجتماعي ومطالبة بديمقراطية حقيقية.

لكن رأس المال لم يكتف بذلك. وهم، مثلنا وأكثر، لديهم كلمنجية وخبراء في بيع البضائع المستخدمة والفاقدة الصلاحية. شن رأس المال حرباً أيديولوجية شرسة على الثورة منذ البداية. افتتحها إدموند بيرك، أحد أهم أصوات رِدَّة ما بعد التنوير وأكثرها رجعية ومحافظة على الإطلاق، في (تأملات عن الثورة في فرنسا). ليس اللافت هنا فقط أن من هاجم الثورة الفرنسية ك (بيرك) وأقرانه كان قد دافع بشراسة أيضاً عن الثورة الأمريكية والنموذج الأمريكي فقط، بل إنّ الخط الأيديولوجي ذاته هو نفسه الذي يُسلح الأفكار التي عملت منذ البداية على إحباط الثورات العربية. فالنص الذي كتبه بيرك ضد الثورة الفرنسية حينذاك لم يؤسس للأفكار الليبرالية المحافظة في الغرب فقط (التي شملت رموزها لاحقاً بعض الأصوات القبيحة والمعادية حتى للإنسانية مثل تاتشر وريغان)، ولم تضع البذور التي أنتجت الأفكار النيوليبرالية هذه الأيام، بل هو المعين ذاته الذي يستقي منه بائعي البضائع المستهلكة من (مثقفين) عرب يروجون لنموذج ديمقراطية المستوطنين في أمريكا الشمالية (انظر قاسم عز الدين: في خرافة التحول الديمقراطي).

العدد 1105 - 01/5/2024