الدولة المدنية الديمقراطية

عند تفسّخ النظام الإقطاعي وانهيار الإقطاعات، والسماح بحرية العمل، وحرية المرور:

laisser passer,laisser faire)) تشكلت الدولة  الأمة، دولة واحدة لشعب واحد، المرجعية دينية والحكام قائمون على المجتمع.

بعد الثورة الفرنسية 9871 والأمريكية 1779. أصبحت مرجعية الدولة هي المواطنة، حرية الفرد. وأصبح جوهر الدولة أو بنيتها المواطن الحرّ وليس الإكليروس أو الأرستقراطية أو غيرها.

أثناء الثورة الصناعية الكبرى في أوربا وبعد قيامها في أواسط القرن الثامن عشر ،1848 أصبح العديد من القيم والمفاهيم المتوارثة متخلفة إزاء الواقع المتطور تصاعدياً ومعيقة لمجمل هذا التطور. فتبنّت القوى الاجتماعية والاقتصادية المستفيدة من مجمل التطورات العلمية مفاهيم جديدة، فأصبح مفهوم الدولة المدنية مستمداً من التمدن والحداثة، وأصبحت الدولة  المدنية ضرورة هامة للوصول إلى المجتمع المدني.

وقد اعتبر المفكر الفرنسي (مونتسيكو) صاحب نظرية فصل السلطات (أن الدولة المدنية هي الدولة التي يتم فيها فصل السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) عن بعضها بطريقة تضمن استقلال كل منها، وحتى تضمن استمرارية فصل السلطات يجب أن تقترن بجملة تشريعات، ترسخ المفهوم المدني للسلطة، لعل أبرزها هي فصل الدين عن الدولة، وهو ما عُرف عموماً بالعِلمانية).

وفي (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)  ،1840 يقول إنجلز: (إن الدولة ظهرت عند انقسام المجتمع إلى طبقات، عندما وجد مستثمِرون ومستثمَرون، وقبل انبثاق الشكل الأول من استثمار الإنسان للإنسان، والشكل الأول للانقسام الطبقي، لم يكن هناك دولة).

 

ما هي العلمانية؟

العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وليس فصله عن المجتمع، والتعامل مع جميع الأديان على قدم المساواة، وأن تضمن الدولة حق معتنقي الأديان كافة في ممارسة شعائرهم وحقوقهم، على أن لا تتدخل التيارات الدينية في شؤون الدولة، وفرض القوانين، والأنظمة، والأحوال الشخصية، والحقوق والواجبات.. إلخ، وترك المجتمع يضع قوانينه.

إذن، الدولة المدنية هي دولة علمانية طغى عليها مفهوم خاطئ على عقول بعض الناس بأن العلمانية هي الكفر، ولذلك سميت المدنية للابتعاد عن هذا الطرح أو التهمة الخاطئة.

التيارات الإسلامية وتوابعها تعتبر العلمانية إلحاداً ومعاداة للدين، وحتى بعض مدّعي العلمانية يعتبرونها كذلك.

أما المفهوم الإسلامي للدولة، على لسان (ابن خلدون)، فيعتبر الدولة: (ظاهرة إنسانية لا ظاهرة إلهية).

في الدولة المدنية يجب أن يتضمن الدستور، وجميع التشريعات التي تقرها الدولة والمتعلقة بكل مفاصل الحياة المجتمعية، مبادئ أو معايير الدولة الحديثة.

 

معايير الدولة الحديثة

الحرية، الديمقراطية، المساواة، تكافؤ الفرص، العدالة، فصل السلطات، فصل الدين عن الدولة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وُضع بعد الحرب العالمية الثانية عام ،1948 بوصفه وثيقة تشريعية أساسية.

 

الموقف من الدولة العلمانية

الإخوان المسلمون في كل البلدان العربية، بعد التطورات الأخيرة، لم يعودوا يقولون بالدولة الدينية أو العلمانية فاستبدلوا بها تسمية الدولة المدنية، ولكنهم يصرون على أن يكون التشريع الإسلامي هو مصدر التشريع، أي أنهم في الواقع ألغوا مدنية الدولة وعلمانيتها، لأن التشريع الإسلامي يلغي مدنية الدولة ويجعلها دولة دينية.

ثم إن التشريع الإسلامي مصطلح هيولي ومن الصعب تعريفه لأنه يعتمد على الفقه، والفقه كما هو معروف من اجتهاد البشر، وأتت مراحل توسع فيه الفقهاء فأحدثوا تغييرات كبيرة في المسائل الدينية بكاملها.

أستشهد على ذلك بمسألتين:

1 إن هناك الألوف من القضايا الفقهية في الإسلام وضعها الفقهاء.

2 الأساس في الإسلام هو التسامح وهو ما تمت إباحته، أي أن كل شيء مباح ومسموح به، ما عدا بعض الأمور التي استثنيت.

(المحرمات في الإسلام 14 فقط وغيرها منهيّ عنه، أي أنه خاضع للنهي عن المحرمات). فأتى الفقهاء وقلبوا المسألة، فجعلوا كل شيء محرماً إلا بعض الاستثناءات التي أباحوها، أي أن كل شيء محرم باستثناءات محددة.

كما أطلق بعض الإسلاميين تعريفات خاصة للدولة المدنية أهمها ما جاء به الشيخ القرضاوي وتبنته بعض تنظيمات الإخوان المسلمين:

(إن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية واقعاً). ولكن في الواقع دون أي أساس أو مرجعية ثقافية أو علمية، وقال البعض الآخر من الإخوان: (إن الدولة المدنية هي التي لا يحكمها عسكريون ولا رجال دين. أما أن تكون قوانينها وتشريعاتها دينية فلا بأس عندهم.

 والخلاصة إن الدولة المدنية هي: الدولة التي تطبق فيها معايير الدولة العلمانية، والتي تضمن لمواطنيها الحق في وضع القوانين التي تتلاءم ومصالحهم ومفاهيمهم وشؤون حياتهم، أي أن مرجعيتهم المواطنة. لا الطائفية ولا الإقليمية ولا الإثنية ولا غيرها، بل المواطنة  فقط ونواتها المواطن الفرد الحر، لا أي شيء آخر.

 

الحالة العربية

1- لم تطبق مرجعية المواطنة جدياً وفعلياً في أية دولة عربية. لذلك نجد مرجعيات ثانوية كانت قائمة ومعمولاً بها قبل الدولة، وهي التي تسمى مرجعيات ما قبل الدولة، مثل المرجعية الطائفية أو الإقليمية أو الإثنية وغير ذلك..

2- حُكمت البلدان العربية إما بحكومات عسكرية ديكتاتورية أو بأنظمة شمولية (أنظمة الحزب الواحد)، أو بملكيات أو إمارات متخلفة معتمدة على مرجعيات تسميها إسلامية، كدول الخليج.

3- أُجهضت محاولات إقامة الدولة المدنية أو العلمانية في سورية (1954 – 1958).

وفي مصر أقيمت هذه الدولة عام 1919 (ثورة سعد زغلول).

وفي العراق في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.

وبقيت الدولة العربية في الواقع لها صفات ومعايير ما قبل الدولة.

ومن دول المنطقة تركيا  عندما قرّر مصطفى كمال أتاتورك إسقاط السلطنة العثمانية وإلغاء الخلافة، بدأ بتحويل تركيا إلى دولة علمانية، حوّلها خلفاؤه فيما بعد إلى دولة للسلطة العسكرية، وفسروا العلمانية على أنها ضد الدين فأخطؤوا بالمقابل كما يخطئ الإسلاميون.

 وفيما يتعلق بالدولة الوطنية الديمقراطية بشكلها المعاصر فستأخذ بعداً استراتيجياً وستكون محور نضال شعبنا في السنوات المقبلة. ذلك لأن الديمقراطية المعاصرة لم تأخذ مداها في الوعي الاجتماعي بعد، ولم تمارس الدولة دورها في إنتاج هذا الوعي، ولم تشكل المؤسسات الكفيلة بتعميقه وتعميمه.

وبما أن الديمقراطية مفهوم حضاري تاريخي فهي تتطلب فترة نضوج مناسبة، وهي أكثر صعوبة وتتطلب جهداً ونفساً أطول في حالة المجتمعات الأقل تطوراً.

وتبقى الديمقراطية في كل الأحوال شكلاً سياسياً مضمونه حركة الإنسان نحو الحرية، أي أنها جملة الشروط والظروف التي يناضل في إطارها البشر لمواصلة طريقهم نحو الحرية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024