الدخول في المدني… الخروج من الأهلي

يبرز اهتمامنا بالمجتمع المدني في كثرة الحديث والكتابة حوله، ما يؤكد رغبة من يتوجهون نحو الحداثة في أن يكون مجتمعهم المدني ناشطاً وفاعلاً. لكن أغلبنا لا يهتدي إلى الطريق التي تفضي إلى تمكين تنظيمات مدنية فاعلة، وربما كان جزء هام، أو الأهم في القضية، هو ارتباطنا بالفكر الغربي الذي نظر إلى الحداثة انطلاقاً من ظروف المجتمعات الغربية، وبرز في هذا المجال مفكرون غربيون كثر، عملنا على استيعاب فكرهم ولم نعمل على نقله إلى الواقع العملي المعاش.

لم نتوقف كثيراً، ونحن ندرس جذور المجتمع المدني في الفكر اليوناني أو عصر النهضة الأوربي وما بعده، بحيث لا تخلوكتابة من المرور على فكر هوبز ومن تسلسل بعده وصولاً إلى ماركس وما قالوه في المجتمع المدني، لم نتوقف عند قضية نقل التفكير إلى الواقع العملاني بشكل سليم، وإذا كان أحد الأسس في تكوين المجتمع المدني هو الأساس الثقافي، فلا يعني أن يكون هذا الأساس مستورداً، فعندما نستورد الأساس في هذه الحالة، كأننا نستورد مجتمعاً، وهذا محال، إذاً لا بد أن يتخلق المجتمع المدني محلياً.

لا يعني هذا أن الاهتمام بفكر الآخرين وتجاربهم حول القضية أمر خاطئ، بل إن علينا كي نصبح أكثر استنارة حول الموضوع أن ندرس تجارب الشعوب التي سبقتنا في هذه المجالات وفكرها. لكن علينا التوقف عند فكرة أن ما ندرسه ليس نظرية علمية، ولا تطبيقاً تكنولوجياً ميكانيكياً يمكن أن نوفر له الظروف ذاتها في أية بيئة ونراعي أثناء التطبيق أدق الشروط، فيكون منتجنا مطابقاً للمنتج الذي نقلده أو نريد نسخه. لقد أضرتنا هذه الأساليب كثيراً.

لكل بيئة مجتمعها المدني، وليس بالضرورة أن تتطابق المجتمعات المدنية. قد تتشابه في جوانب وتختلف في أخرى، لكنها عندما تتطابق تجلب الكوارث التي ليس أقلها أن اللاحق يكون على صورة السابق، أو ينسخه فيفقد هويته كلياً أو جزئياً. ثم إن ذلك يضيع على البشرية فكرة التنوع التي تغني المشهد الإنساني.

لا بد من العودة إلى الأسس التي تقول إن المجتمع المدني هو مجتمع الحداثة، فهل نستطيع الدخول في الحديث دون الخروج من القديم؟ الواقع يقول بالنظر إلى مجتمعاتنا أيضاً، إن المجتمع الذي نريد الخروج منه للدخول في المجتمع المدني، هو المجتمع الأهلي، وإذا لم نكن على وعي دقيق بالقضية وأهمية وطرق الخروج من القديم كي نستطيع الدخول في الحديث، يكون جهدنا متعثراً، بل فاشلاً.

المهم أن نكون بأغلبيتنا، وليس القلة المثقفة فقط، على شيء من الدراية بمكونات المجتمع الأهلي ومفهومه نظرياً، وامتداداته الفاعلة التي يصعب اقتلاعها لأنها ثقافة متجذرة وواقع معاش. فالعيش بين الأهل في القرى والبوادي هو السمة الغالبة لا تزال في مجتمعاتنا الشرقية الإسلامية، والأصل في الأهل أنهم الأقارب من جهة النسب والشراكة في الدم والجدود منذ القدم، وعبر التسلسل السلالي النسبي، بحيث نجد الشعب مكوناً من قبائل فعشائر فبطون فأفخاذ، ولكل مرتبة شيوخها ومرجعياتها المرتبطة بغيرها، ويعبر عنها حتى يومنا بشجرة النسب التي يحافظ عليها كاستمرار لعلم الأنساب عند العرب.

إن أهمية الارتباط بالقبيلة والعشيرة، فرضتها طبيعة الحياة الصعبة في البوادي والأرياف، حيث تحتاج الجماعة إلى التعاون في كل شؤون حياتها، من إنتاج الأرزاق إلى الحماية من الأعداء، ما يفرض التآلف بين المجموع والتزاوج القرابي والحفاظ على العلاقات مع الأقرب فالأقرب، وعلى التحالفات، بحيث أصبحت القبائل أو المكونات كتلاً صلبة يصعب تفكيكها، ومن يجرب الخروج على ثقافتها وشروط اجتماعها، يلحق به ما لحق بالصعاليك في الجاهلية، أي يطرد من القبيلة، فيبقى بلا ملاذ ولا حماية.

لقد دلت التجارب والأيام على فاعلية هذه البنى الاجتماعية الصلبة، فالقبيلة أو العشيرة تتحرك كتلة واحدة، يقودها شيخها (المرياع)، ويساعده شيوخ الكتل الأصغر، في مجتمع بطريركي (أبوي). حتى أن هذه القبائل أو العشائر، عندما انتقل بعض أبنائها إلى المدن في العصر الحديث تحت ضغط توطين البدو، سكنوا في أحياء خاصة بكل قبيلة أو عشيرة، بالرغم من الاستقرار في المدينة الواحدة، فصرنا نسمع: حي بني فلان، وحارة بني فلان، ما يعني انتساب الساكنين فيها بأغلبيتهم إلى هذا المكون الاجتماعي الوشائجي، لضرورة التضامن المتوارث عن الطوارئ كما تفترض ثقافة الجماعة.

ومع أنني لا أريد أن أتأستذ لأني لا آتي بجديد غير معلوم، إنما لا بد من التأسيس لما نفكر فيه، وهو الوصول إلى المجتمع المدني. ولا نستطيع القفز إلى ذلك دون المرور على شكل آخر من أشكال المجتمع الأهلي التي لا تزال تشكل عائقاً أمام المجتمع المدني. فالعقائد الدينية جعلت للناس أهلين آخرين غير أهليهم عن طريق النسب، فأبناء كل دين مدعوون للتضامن باعتبار انتمائهم الذي تصنعه العقيدة ومالها من قدرة وفاعلية في جمع المؤمنين قطيعياً. وبما أن العقائد تعددت ثم تشعبت إلى فرق ومذاهب ونحل، فقد أصبح تكتل المؤمنين يشكل تجمعات أهلية عن طريق العقيدة، وأصبحت الطوائف والفرق والمذاهب ملاذات للمنتسبين تصنع منهم كتلاً صلبة متماسكة، يقوم على رعاية تماسكها رجال دين أكثر حرصاً على تماسك الجماعة، لدوافع من أهمها صناعة الزعامات، وكل ذلك تحت زعم تنفيذ أوامر السماء. وهذا ما أدى إلى التفارق الشديد بين الكتل الإيمانية التي إن اختلفت إحداها عن الأخرى بفكرة أو كلمة في العقيدة أو الشريعة، لا تلبث أن تجد من يبني عليها، ويتطور الخلاف إلى عداء وخنادق ومتاريس إيمانية بينها وبين كل ما عداها، وهكذا بالنسبة للجميع، فلا مكان للرضا بالآخر في العقائد، بل يتعصب المؤمنون كلٌّ إلى فئته، فنصبح أمام كتل اجتماعية جامعها عقائدها الصلبة التي يتعصب لها الأتباع مع استعدادهم للاستشهاد في سبيلها، ما يدخلنا مداخل الإرهاب.

أبناء المجتمع الأهلي بنوعيه (أهل عن طريق النسب، وأهل عن طريق العقيدة)، هم الذين نريد أن نصنع منهم، أو نحولهم إلى مجتمعات مدنية. كيف يصح ذلك دون تفكيك مجتمعاتهم الأهلية التي ينتمون إليها وتتجذر في ثقافتهم ووجدانهم؟!

المدن التي نشتق من لفظها المجتمع المدني، تختلف عن البوادي والأرياف، فهي تجمعات سكانية كبيرة، يأتيها الناس للسكن من مناطق متعددة لا تنتمي إلى قبيلة واحدة ولا إلى عقيدة واحدة، أي لا ثقافة واحدة تجمعهم، وأسلوب عيش سكانها الأصليين والوافدين متعدد ومختلف، فلا يكون الناس فيها رعاة أو فلاحين، ما يعني أن الحاجة إلى الشكل القديم من التضامن بينهم معدومة. بالتالي فإن طبيعة حياتهم ونشاطهم الاقتصادي يتطلب منهم شكلاً أو أشكالاً أخرى من التضامن، لا تلتفت إلى الشكل السابق ولا الأساليب الموروثة، أي لا تعتمد على القرابة النسبية (قرابة الدم) ولا على القرابة العقيدية.

فعندما يكون لدينا أبناء حرفة واحدة من الحرف الناشطة في المدينة، كالنسيج مثلاً، فإن العاملين بها في المدن قد ينتمون إلى عدد كبير من التكوينات الأهلية (العشائر والطوائف والأقوام)، ولا يصح أن ينقل كل منهم شكل تضامنه مع عشيرته والتعصب لها إلى جماعته الجديدة (النساجون)، أبناء الحرفة الذين يحتاجون إلى تنظيم يخدم مصالحهم ومهنهم، فينشئون تكتلات مهنية، تساعدهم في تنمية مصالحهم، وتنمية ثقافة أخرى تقوم على أسلوب تضامن جديد.

هكذا يفعل أبناء المهن والاختصاصات أو المجالات الأخرى: المثقفون يكونون تجمعاتهم الثقافية (فرق فنية، اتحادات، روابط…)، والعاملون في حرف كالتجارة والصناعة والسياحة، يكونون تجمعاتهم (غرف تجارة وصناعة…)، المهتمون بالعاديات والآثار لهم جمعياتهم وتجمعاتهم، وغير ذلك. يعني أن شكلاً جديداً من التنظيم الاجتماعي يتكون مع التغيرات الجديدة التي تحدثها الظروف، تختلف أسسه عما كان سائداً في المجتمع الأهلي، تحت ضغط ومطلب هذه الظروف، ولا يصح أن يكون لأبناء كل قبيلة أو مذهب تجمعاتهم على أساس تخصصاتهم، فذلك لا يخدم المهن وتقدمها، وأبناء هذه المهن والتخصصات يحملون ثقافات تلصقهم بأشباههم، وتبعدهم عن اختصاصات أخرى، حتى لو كان أبناؤها من أقاربهم. بالتالي فإن أسس قيام التجمعات تختلف، تتزعزع الثقافة الوشائجية التقليدية القرابية بفعل الحاجة وتشابك العلاقات واتساع المجتمع المنتمي إلى عدد كبير من التكوينات الاجتماعية والثقافية، ولا تلبث هذه المجتمعات أن تنهض على أسس جديدة تقودها المصالح والثقافات، ويكون تلاشي الثقافة القديمة في خدمة الأخرى التي تتخلق من جديد، يدعمها اندماج الوافدين إلى المدن وسكانها الأصليين بتنظيماتهم التي تؤمن ازدهار مصالحهم وتطوير عيشهم، وتجعلهم يصنعون ثقافتهم على الطرز الحديثة، والأهم منها، أنها تقطع الأواصر مع ما يعيق تطور المجتمع من الموروث الأهلي، بمقدار ما تكون حياة الناس مدنية حقيقية، وتكويناتها تكوينات مدنية (أحزاب، نقابات، اتحادات، تجمعات مهن، وسائل إعلام، جامعات، جمعيات رعاية…)، شرط ألا تقوم أي من هذه التنظيمات على أسس قرابية أو عقدية، كأن يشكل أبناء عشيرة أو قومية أو طائفة جمعيات داخلية، يمنع الآخرون من دخولها أو الإفادة من خدماتها. وهذه المسالك سلكتها أوربا التي نريد تقليدها، فصنعت مجتمعها المدني.

العدد 1107 - 22/5/2024