هل الأزمة السورية «راوح مكانك»؟

طار آلاف الصحفيين إلى جنيف لتغطية الحدث المرتقب، وانبرت أقلام المحللين السياسيين، ولاكت ألسنة السياسيين، وغنى كل على ليلاه، وشخصت عيون العالم إلى شاشات المرئي لترى ذلك الحدث.

وحدهم السوريون كانت قلوبهم تدق، وآمالهم مشدودة، ممنين أنفسهم بقرب حالة الخلاص، من القتل، والتشرد، والتهجير، والرايات السوداء، وحنّ الأطفال إلى مدارسهم وأناشيدهم وألعابهم المفضلة، ولاحت آمال النساء بالأمن والأمان والاطمئنان على فلذات أكبادهن.

كانت المفاجأة بالتوقف القسري لطائرة الوفد الحكومي السوري لمدة خمس ساعات، في العاصمة اليونانية، فانصرفت الأنظار عن خلافات المعارضة وصعوبة تشكيل وفدها.. وقيل بأن هذا التوقف القسري تم بقرار أمريكي حتى لا يصل الوفد الحكومي السوري مرتاحاً ومعنوياته عالية، وهي رسالة بعدم خروج المؤتمر العتيد بأي قرار.

ورافق التحضير لانعقاد المؤتمر زخّ إعلامي غير مسبوق عن جلسات المحكمة الدولية، بشأن اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، كما نشرت صور صادمة تظهر بشراً معذبين ومقتولين، وقيل بأن النظام السوري هو من فعل ذلك بهم.. وكل هذه الأحداث من تعثر الطائرة، إلى جلسات المحكمة، إلى نشر الصور هي جزء من التفاوض بإخراج أمريكي.

الإدارة الأمريكية قررت على ما يبدو اللعب على المكشوف.. الأزمة السورية (راوح مكانك)، وأعلنت أكثر من مرة (مازال الحل مبكراً)، ومجرد وجود الإعلام بهذا الشكل، يوحي بأنه مقرر، ولا حل.. فلو أخذنا اتفاقيات (كامب ديفيد) أو (الطائف) أو غيرها.. فإنه لا يسمح لهذا الكم الكبير من الإعلاميين بالتدخل في الشاردة والواردة، وبمجرد اختراق الإعلام لأي تصريح أو موقف، كان يجري نقل المفاوضات، أو الإغلاق المحكم على المتفاوضين.. وهذه من شروط نجاح أي مفاوضات، إلا إذا كان التفاوض والاتفاقات تجري في مكان آخر، وهذا احتمال مرجح.

كانت بداية تعطيل جنيف 2 في كلمة وزير الخارجية الأمريكي (الإعلان)، وتجلت صورة الدول المتآمرة على سورية، وفي المقابل كان خطاب وزير الخارجية الروسي متوازناً وسياسياً بامتياز.

وظهر الوفد الحكومي السوري متماسكاً، ورئيسه يفهم الدبلوماسية والبروتوكولات جيداً، وتحدث أكثر من الوقت المحدد، وهو يعرف تماماً لماذا. لذلك نستطيع القول بأن ما جرى في جنيف 2 ليست مفاوضات، بينما ادعى كل طرف أنه حقق نجاحات كبيرة.. وبغض النظر عن ميزان أو مقياس هذه النجاحات، ويمكن الاعتراف بأن كل طرف حقق بعض النجاحات الخاصة به، ولكن الشعب السوري الذي ينزف دماً، وكرامة، وألماً معنوياً، واقتصادياً، وفكرياً، ويريد وقف العنف والإرهاب، لم يتحقق ما يصبو إليه.. وما تحقق في هذه الجولة هو كسر للجليد بسيط كما يريد الكبار.

ويبدو أن ملفات كثيرة في المنطقة وخارجها مرتبطة فيما بينها، والحل عند (الكبار) لم يكتمل حتى تاريخه.. أما الشعب السوري فيرى أن الحل الحقيقي هو في دمشق وبين السوريين. أما الرؤيا الأمريكية، لمن يراهن عليها، فقد تجلت بخطاب رئيسها أوباما الأخير، فقد ذكر أن الإرهاب يضرب في منطقة الشرق الأوسط (اليمن، مصر، العراق). وفي سورية.. تحدث عن دعم المعارضة التي تتعارض مع دعم المنظمات الإرهابية.. لذلك يرون الخطر الإرهابي ليس مباشراً وإنما بمقاربة براغماتية، لأن الحسابات الخاطئة إقليمياً ودولياً عقّدت الوضع السوري، وجعلت الفاعلية الأمريكية السياسية في سورية دبلوماسياً وعسكرياً في تراجع، والخيار الوحيد أمامهم هو عقد صفقة مع النظام في سورية، وهذا الخيار يصطدم بعدم مساعدة الخليج لإتمام هذه الصفقة.

وقد ينتظر الأمريكان موقفاً ملموساً من تركيا تساعدهم في تنفيذ بعض التنازلات المرغمين عليها، لأن تركيا بدأت تطرح على الدول مراجعة حساباها وسياساتها، وهذا يشكل تراجعاً في الموقف التركي الذي راهن خطأ على دور إخواني في سورية.. والزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي أردوغان إلى إيران، وتأكيده الشراكة السياسية والتفاهم معها، واتفاقهما على محارب الإرهاب، وضرب طائراته لأول مرة (داعش) داخل الأراضي السورية، في سابقة، كل ذلك له دلالاته، والموقف الأشد وضوحاً هو التصريح المشترك بين البلدين بأن تقرير المصير للشعب السوري وحده، وهذا تراجع بيّن عن (إقصاء الأسد).

وتصريحات رئيس الوزراء العراقي العلنية ضد تسليح المعارضة (المعتدلة) في سورية، وتطورات الأحداث ومواقف الحكومة المصرية، وحتى التونسية، والليبية إلى حد ما، مؤشرات على (طبخة) ما بدأت تنضج، وربما سيلعب الأمريكان الورقة الأخيرة (صولد) مع الروس عبر أوكرانيا، لمقايضتها بالملف السوري. ولكن شعباً صمد وضحى بالغالي والنفيس، لا يمكن أن يساوم أو يقبل المس بسيادته وكرامته ووحدة أراضيه وشعبه، وباعتبار أن الأزمة السورية دخلت لعبة الأمم، فالمنفذ الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو في حوار السوريين أنفسهم، على مختلف أطيافهم السياسية ومكوناتهم الاجتماعية والدينية، للاتفاق على ميثاق وطني يضمن الحفاظ على  الدولة السورية ووحدة أراضيها وشعبها، والاتفاق على برنامج سياسي ديمقراطي يضمن التعددية السياسية والهوية الوطنية وحرية المواطنين وكرامتهم، على أسس عادلة وديمقراطية، لبناء دولتهم المستقلة الحرة الديمقراطية التعددية العلمانية.. عند ذلك سيقف المجتمع الدولي وقواه الديمقراطية والتقدمية إلى جانبهم ويؤيد خياراتهم.

العدد 1105 - 01/5/2024