ثقافة الحرية ووعيها الجديد

السؤال أولاً عن طبيعة الحريّة التي نريدها.. هل هي الحريّة المطلقة التي تخوّلنا فعل ما نريد بالكيفية والطّريقة التي نريد؟ أم الحريّة المقيدة بقانون؟ لا بدّ أيضاً من التساؤل عن الغاية الفعليّة من الحريّة المنشودة؟ هل هي تشييد جنة عدن على الأرض؟..أم ضمان حقوق المواطنة، وقيمها؟

 هذان السّؤالان مركزيان، وأساسيان، ويدفعان إلى الحوار مع الذّات الفردية، والجمعية، والوطنية. هذا الحوار يشكل أرضية معرفيّة وثقافية لفهم قضية  الحرية وما نريده، وما يناسبنا منها.

 كانت رؤية المفكر اليونانيّ الكبير  سقراط  لمسألة الحريّة تتجه نحو منح حريات سياسيّة للشّعب، لكنها لا يجوز أن تكون مطلقة، وواسعة، لأنها قد تؤدي إلى نوع من الفوضى وغياب ضوابط ممارسة الحريّة.. لدرجة أنه في مثالنا العربي هناك أحزاب، وتيارات تصل معها وجهة النّظر في الحريّة إلى حدود التآمر على الآخر الوطنيّ، والتعاون مع إسرائيل في سبيل ذلك، مثال: القوات اللبنانيّة، وبعض الفصائل الأخرى وتيارات هنا ، وهناك في الوطن العربي. كان سقراط يؤكد أهمية رؤية الفكر، والضّمير، بمعنى وعي الحريّة، وارتباطها القيميّ بالداخل الوجداني، بمعنى أنّ الحريّة أخلاقيّة، في الأساس، وهي وجدانية، وضميريّة.

– الحريّة ليست انفعالات عاطفية، هوجائية، ولا نزوات عابرة، وإنّما هي (عملية بناء المواطن الحقيقي الذي يلتزم بأداء واجبه.. بقدر حرصه على نيل حقوقه..). بهذا المعنى هي عملية  تربويّة شاقة، ومريرة، وهي في التأسيس ثورة ثقافيّة وجهد متواصل، لتحصين مناعة المواطن، والارتقاء بوعيه، وفكره وممارسته إلى أعلى مراتب المدنيّة، والحضارة، وعلى  ذلك يمكن وضع بعض آليات العمل التي يمكن أن تساهم في تأسيس حرية مسؤولة.

+ العنوان الأول: التربية على قيم الحريّة.. فالتلوث الفكريّ، والتبلد الذهنيّ السّائدان اليوم عربيّاً هما نتيجة مباشرة، وغير مباشرة لقصور المناهج التّربوية: في الرّوحيات، والتّاريخ، والفلسفة، والأدب وحتى العلوم.. قصورها عن تحقيق الهدف الثاني بعد الهدف المعرفيّ وهو حقيقة بناء المواطن الذي لا يقبل الخنوع، والواثق من نفسه، والقادر على قول الحقيقة.. وغير المأخوذ بالسّياسيّ، والعقائديّ فقط. بل هو  المواطن، والوطنيّ في الأساس، وهو القادر على الرّؤية، والتحليل، وقول الحقيقة.. لذلك فقيام التّعليم على قاعدة العقل، والمعرفة، والتّحليل، والإخلاص للحقيقة، وتعميق أساليب البحث، والاستقراء، والاستنتاج.. إنه التّعليم الذي يجب أن يكون مشروعاً تربويّاً نابعاً من الاحتياجات الحقيقية للبلاد.. وهذا لا يعني الانغلاق. بل الانفتاح المعرفيّ على كلّ ما يفيد، وعلى كلّ ما هو أصيل، وصحيح.. إنّ من يقود  المشروع التّربوي في أيّ بلد يجب أن يكون من أهل الكفاءة والخبرة، والرّؤية، وقدرة الإبداع، والمتابعة. وهنا تكون التربية على الحريّة هي تبنّي ثقافة وطنيّة، وإنسانية مشبعة بالقيم العليا: الصدق، الأمانة، الوفاء، والثقة بالنّفس.

+ العنوان الثاني في بناء الحريّة هو : العدالة الاجتماعيّة..القائمة على عدالة توزيع الثّروات الوطنية.. ومراعاة التّكامل بين جميع الشرائح الاجتماعيّة على قاعدة الإنماء المتوازن، والعادل، والميثاق الأخلاقيّ الثابت الذي يخلق الأمان، والاطمئنان، وإحساس الفرد أنّه في وطن التّشارك، وبالتالي يشعر بالمسؤولية، ومعاني ممارسة الحريّة في ظلّ مشاركة الجميع .

+ تناسق الفكر ، والممارسة: وهو عنوان كبير في ثقافة الحريّة، ونشرها.. فقد أدى الانفصال بين القول، والعمل، إلى نشوء تشوّه في الوعي، وكذب على الذّات، والآخر، وفقدان للثقة بين القيادات، والشّعب.. وبين ما يعرف بالنّخب، والرّسميين، وبين الشّعب وبعده الاجتماعيّ، والحاجة إلى صدق المسؤول، والتزامه بما يقول. لذلك فإن تلازم الفكر، والممارسة  يساعد كثيراً في بناء الحريّة، وممارستها، وإدراك مسؤولياتها، وتطبيقاتها، وإعادة الثقة والتّواصل بين مكونات المجتمع الواحد.

+ الحقوق السياسيّة: إنّ ضمان الحقوق السّياسيّة لكلّ المواطنين لا يعني أي تساهل في وجه من يسيء أو يهدّم، وما يحدد سقف ممارسة الحريّة، وأسلوب ممارستها هو: المؤسسات القانونية، والدّستوريّة، ومبادئ حقوق الإنسان والأخلاقيات الاجتماعيّة، ونواظمها.. وحتى العادات، والتقاليد، والموروث القيميّ الذي لا يصطدم مع العقل، والأخلاق.

+ استقلالية الفكر، والثقافة، والمثقف: بمعنى الوظيفة الثّقافية البنائيّة من حرية التّعبير، وممارسة النقد، وعدم خضوع  الثقافيّ للإملاء السّياسيّ…بل خضوع المثقف للعقل ، والقيم، والمثل العليا الوطنيّة، وأين تكون..لقد استطاع مثقفو القرن التّاسع عشر، وقسم من القرن العشرين، الجمع بين الوظيفة السّياسيّة، بالمعنى الوطني، والوظيفة الثقافية، بمعنى ثقافة البناء، والتّنوير، والتّغيير..

إنّ مهمة المثقف أن يكون مفسّراً، ومنظّراً، ومستشرفاً، وباحثاً عن الحقيقة، والمصلحة العليا وأين تكون .

 لقد أضرّت عملية احتواء الثقافيّ بالسّياسيّ، وكان يجب أن يبقى الثقافيّ مراقباً، وناقداً ، ومصوّباً، ومشير إلى تقصير هنا، وهناك، ولا يجوز أن يكون صوت السّياسيّ، وصداه.. وهذا يتعلق بمستوى الحريّة المتاحة للثقافي، للتعبير عن أفكاره، وتطلعاته، وحدودها الوطنيّة، وكيف تكون. إنّ حرص المثقف على استقلاليته يجعله حارس الحريّة الدّائم حال اقتران الثقافيّ بالضّميريّ، وهذا ضروريّ.

من هنا يكون للحريّة علاقة بالتّنمية، والثقافة، والتّربية، والسلوك.. لذلك علينا في هذا المنعطف أن نستشرف كيف نؤسس لبناء الحريّة وممارستها.

العدد 1105 - 01/5/2024