أبواق الحرب.. موسيقا اعتيادية لطفولةٍ مُشتتة

يتخذ تلوّث الحياة أشكالاً متعددة بتعدد حواس الإنسان إن لم يكن أكثر.. والتلوّث السمعي هو أخطرها لاسيما بالنسبة للأطفال بدءاً من حديثي الولادة وصولاً إلى طفولة المتوسطة، إذ لا شكّ أن هذا الأذى السمعي يترك آثاره المادية والجسدية والنفسية الخطيرة، ما يجعلهم في حالة قلق وترقب أو استنفار دائم، وهذا ما لم يكن بكل تلك الشدّة فيما سبق، فحين كنّا صغاراً، كنّا نستمتع بأصوات زقزقة العصافير صباحاً، وبأغاني الطفولة البريئة الحالمة، وكم كانت دهشتنا كبيرة إن سمعنا أيّما صوت غير مألوف، فترانا نرفرف يدفعنا الفضول لمعرفة مصدر ذاك الصوت وسببه، ينتابنا الخوف إن لم يتمكن وعينا البريء من إدراك كُنْهِ ما يحدث من حولنا، حيث كان الهدوء سيد الأصوات وقتذاك، مما ساهم في زرع الطمأنينة بعض الشيء داخل أرواحنا المُحلّقة في فضاءات الحلم اللامحدود…

أما أطفالنا، فقد نما وعيهم على مختلف الأصوات، التي كنّا نحسّها غريبة، بينما اعتادوا هم عليها وكأنها طبيعية، كأصوات أبواق السيارات والدراجات النارية التي ترعد ليل نهار غير آبهةٍ بفزعهم وإيقاظهم من نومهم الهادئ، أو أصوات سيارات الإسعاف وقد باتوا يفهمون أنها بسرعتها المخيفة تحاول إنقاذ حياة جريحٍ من هنا، أو مصابٍ من هناك، فضلاً عن أصوات المولدات الكهربائية التي لا تتوقف على مدار الساعة نظراً للانقطاع المتواصل للكهرباء، وإن توقفت فأصوات موتورات المياه تحلُّ محلها في محاولةٍ لجرّ المياه التي باتت أشبه بالعملة الصعبة، وليت الأمور توقفت عند هذا الحد، فأصوات القذائف والاشتباكات التي لم نعتد نحن الكبار عليها رغم مضي السنوات الست على الحرب الدائرة، فتصيبنا بالهلع الدائم، بينما اعتاد أبناؤنا عليها، بل صاروا يميّزون بين مصادرها، دونما رفة عين أو قلق أو استفسار، وكأنها من أهم عناصر الحياة بالنسبة لهم، وهذا طبيعي لأن وعيهم وإدراكهم لمحيطهم ترافق مع تلك الأصوات وشدّتها وتنوّعها، حتى الصغار منهم الذين لم تتشكل بعد على لسانهم جملة كاملة، باتوا لا ينتبهون لها لكثرة ما ترددت على مسامعهم.

في العام الماضي اعترتني الدهشة لحديث دار بين طفلتين لا تتجاوز أكبرهما الأربعة أعوام، فحينما كانتا تلعبان معاً، هدر صوت إحدى قذائف المدفعية القريبة من مكان سكنهما، وقد ارتجت من شدّتها الأبواب والنوافذ، وفيما هرعت أمهما لإدخالهما حفاظاً على أرواحهما، كانت الصغيرة تقول للكبيرة بلكنتها المتعثرة: (لا تخافي… كملي لعب… هي قذيفة)….!!!

وتابعت لعبها وكأن شيئاً لم يكن…

هكذا يكبر أطفالنا، أبناء الحرب المستعرة، لو توقف التلوث السمعي الذي يعيشونه على أصوات أبواق السيارات والأغاني الصاخبة التي تعدو بسرعة تلك السيارة، أو على أصوات مولدات الكهرباء وموتورات الماء، لكان الأمر ضمن نطاق السيطرة، ذلك أننا سنتمكن من إفهامهم أن هذا بسبب الرعونة وطيش بعض الشبان المراهقين المزعجين، أو بحكم ضرورة متطلبات الحياة، أما أن يعتاد هؤلاء الصغار على أصوات الموت المتعددة، فهذا أمر ليس من السهولة السيطرة عليه، لما له من انعكاسات سلبية على شخصياتهم ونمطية حياتهم في المستقبل حينما يصبحون كباراً ناضجين… إذ ستفتقد ارواحهم السكينة الداخلية ويحلُّ محلها القلق المتواصل، ستكون نفسياتهم مبعثرة تعاني صراعاتٍ لا حصر لها، فمن المعروف أن ما يتلقاه الطفل في سنيه الأولى له كبير الأثر على شخصيته فيما بعد، ولا أبالغ إن قلت إن العبثية والتهور هما أهم ما سيميزهم وهم يكبرون أمام أعيننا، فيما نحن غير قادرين على فعل أي شيء مهما جاهدنا اليوم للفت انتباههم عما يدور حولهم…

كيف نستطيع أن نحول دون أن تعاني الطفولة المغتالة اليوم مما ستعانيه في الغد، حينما يصبح واقع اليوم ماضياً؟؟؟ هذا السؤال الذي ما زلت أبحث عن إجابة له، لكني حتى اليوم لم أتوصل لتلك الإجابة المنشودة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024