(اقتصاد اليوم التالي): زجّ الأحزاب والأطياف السياسية والمجتمعية في عملية التنمية

 

تزامن التغيير السياسي مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية

بيّن الدكتور منير الحمش رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية أن العوامل الاقتصادية لعبت دوراً بارزاً في حركات الاحتجاج التي اجتاحت المنطقة العربية منذ بداية عام ،2011 وأشار إلى أن ما يجمع بين جميع حركات الاحتجاجات وما آلت إليه في البلدان العربية هو غياب البرنامج الاقتصادي لما بعد الأزمة، وعدم وضوح الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، مشدداً على ضرورة الوقوف على ماهية الإخفاق في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الذي شمل معظم الأنظمة الاقتصادية في البلدان العربية، وبهذا فإنه في جميع الحالات، تلازم الإخفاق الاقتصادي مع الإخفاق السياسي المتمثل في الاستحواذ على السلطة وإقصاء الآخر، إلى جانب الممارسات الأمنية والارتباط بسياسات خارجية معينة.

وأكد الحمش خلال ورشة عمل أقامتها كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بالتعاون مع الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية تحت عنوان (اقتصاد اليوم التالي) أكد أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المناسبة لمرحلة الانتقال وما يليها يجب أن تتزامن وتتوازى مع عملية التغيير السياسي، وأن يرتبط ذلك كله مع برنامج اقتصادي-اجتماعي-سياسي، من شأنه ليس فقط الخروج من حالة الإقصاء التي وصلت إليها البلدان العربية التي انبثقت عنها حركات الاحتجاج، وإنما أيضاً العمل على بناء المستقبل الزاهر للأجيال القادمة، وإيجاد الأسس السليمة لسياسات ما بعد المرحلة الانتقالية، وأشار إلى الموارد المالية الضخمة اللازمة لإعادة دورة الإنتاج، ولتمويل عملية إعادة الإعمار وعملية التنمية، مؤكداً تصاعد دور الوسطاء والوكلاء وتجار الأزمات والمؤسسات المالية الدولية، بهدف جني الأرباح وتحويلها لصالح فئات جديدة أو قديمة لها ارتباطاتها مع الفئات التي أفرزتها الأزمة في هذه المرحلة، مؤكداً ضرورة الاعتماد على الموارد الذاتية، واستعادة الأموال المنهوبة والحد من الفساد، وترشيد الإنفاق والقضاء على هدر الأموال العامة وسرقتها، إلى جانب الاستعانة بما يمكن أن توفره الدول الصديقة من تسهيلات وقروض غير مشروطة.

أيضاً تضمنت ورقة رئيس الجمعية العربية للعلوم الاقتصادية مجموعة نقاط يجب على النهج الاقتصادي للمرحلة الانتقالية أن يراعيها، ويمكن الانطلاق منها للمراحل التالية، منها مواجهة السلبيات التي تولدت عن السياسات الاقتصادية والممارسات البيروقراطية في ظل النظام السياسي والاقتصادي السابق لضمان توفير أسس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، إضافة إلى دعم الإنتاج والإنتاجية، والقضاء على ثقافة الاستهلاك، والحد من الاستغلال والمستغلين والبيروقراطية والبيروقراطيين، وتوسع الدولة في الإنفاق الاستثماري والخدمي الشعبي وترشيد الإنفاق الإداري والجاري، وإصلاح القطاع العام، وتحقيق نوع من التوازن مع القطاع الخاص، مع الاهتمام بالتعليم ودعم البحث العلمي بالإمكانات البشرية والمادية، والعمل على استعادة الأموال المنهوبة من الدولة والقطاع العام، وإقامة علاقة متوازنة ومسؤولة مع المؤسسات المالية الدولية دون شروط مجحفة بحقوقنا السيادية، مع ضبط العلاقات الاقتصادية والتجارية بالعالم الخارجي وتطويرها بما يخدم أهداف عملية التنمية ويعزز القرار الاقتصادي الوطني المستقل، ومن المهم التدرج المحكوم في الانفتاح على العالم الخارجي وتمكين الاقتصاد كأولوية ضرورية، إضافة إلى توجيه الجهود المالية والبشرية نحو إعادة إعمار ما خربته الأحداث الأخيرة، والعمل على بناء قاعدة قوية من البنى التحتية بما في ذلك الاستثمار الاقتصادي للموارد الطبيعية المتاحة.

من جهته أشار الباحث الاقتصادي الدكتور عابد فضلية إلى الوجه الآخر لنمو الاقتصاد السوري قبل الأزمة، على الرغم من تحقيقه معدلات نمو جيدة وخاصة خلال الخطتين التاسعة والعاشرة، فقد تضمن اختلالات هيكلية وتضخيماً في القطاعات الريعية والمالية والمضاربات العقارية على حساب قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية، واتساع تضخم أنشطة وحجم القطاع غير المنظم وانخفاضاً في قطاعات الإنتاج السلعي، عدا الارتفاع في تكاليف المعيشة ومعدلات البطالة والفقر وازدياد في التهرب الضريبي والجمركي وتراجعاً في كفاءة القطاع العام، وقد تسارع في تلك الفترة تطبيق سياسات تجارية مغالية في الانفتاح، كان لها دور سلبي على قطاعات الإنتاج السلعي. وفي ظل هذا الوضع غير المؤاتي دخلت سورية في نفق الأزمنة الراهنة التي لم تقتصر آثارها السلبية على الأداء الاقتصادي والخسائر المادية فقط، بل تعدتها إلى تداعيات اجتماعية خطيرة.

ولفت فضلية إلى تراجع الناتج المحلي عام 2011 بنسبة (7,3%) واستمر بتقلصه عام 2012 بنسبة (8,18%) وكانت الخسارة الأكبر في قطاع السياحة، عدا تراجع أنشطة ومؤشرات قطاع النقل والخدمات، إذ تقلص الطلب العام والخاص وتراجع الاستثمار العام والخاص وتفاقم العجز في مالية الخزينة العامة وانكماش العمل المصرفي وصعوبة الاستمرار بممارسة الأنشطة الإنتاجية وصعوبة النقل والتنقل، إضافة إلى تعثر السياسة النقدية وانخفاض قيمة العملة الوطنية وعجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات وانخفاض الاحتياطيات من القطع الأجنبي.

وبين فضلية أنه بعد مرور 1000 يوم على بدء الأزمة هناك 3 ملايين عاطل عن العمل من أصل 5 ملايين، وتراجع الناتج المحلي بنسبة 45% بالمقارنة مع الناتج قبل الأزمة، وتضرر كلي أو جزئي لمليوني مسكن وأضرار مادية بمئات المليارات في البنى التحتية والمدارس والمشافي والمؤسسات والآليات العامة والخاصة، وخروج الآلاف من الأطباء والحرفيين ورجال الأعمال والمستثمرين والصناعيين….

كما قدّم فضلية مجموعة من الرؤى لماهية اقتصاد اليوم التالي في سورية على المستوى الكلي والاستراتيجي يعتمد على تنمية اقتصادية اجتماعية في إطار عملية مستمرة من إعادة البناء والبناء والإصلاح والتطوير من خلال عدد من الإجراءات، أهمها الاستمرار بنهج السوق الاجتماعي المعدل بحيث يحقق الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والاستناد إلى هوية وطبيعة الاقتصاد السوري بأنه اقتصاد زراعي أولاً وزراعي صناعي، وزراعي صناعي سياحي أولاً، واقتصاد زراعي صناعي سياحي خدمي ثانياً، مع الاعتماد على القدرات والطاقات الذاتية، وأن يكون المواطن كإنسان هو (البوصلة).

كما شدد على ضرورة أن تنجح عملية الإصلاح الاقتصادي في زجّ الأحزاب والأطياف السياسية والمجتمعية في عملية التنمية.

أما عن الرؤى لماهية اقتصاد اليوم التالي في سورية على المستوى القطاعي أو الجزئي التي قدمها فضلية، فمنها وضع خطة لتطوير الصناعة السورية، والتركيز على قطاعات الإنتاج السلعي المولدة للقيمة المضافة وعلى رأسها الإنتاج الزراعي، مع وضع خطة وطنية شاملة لقطاع الإسكان والتطوير العقاري وإعادة الإعمار، إضافة إلى تنظيم اقتصاد الظل وتعديل تشريعات الاستثمار.

وأشار الباحث الاقتصادي الدكتور موسى الغرير إلى أن الإحصائيات تقدر قيمة الأضرار الأولية في القطاع العام الصناعي بنحو 40 مليار ليرة سورية لغاية الشهر الأول من عام 2013 وأن 67 معملاً ومحلجاً من المنشآت التابعة لوزارة الصناعة قد خرجت عن الخدمة، في حين أن خسائر القطاع الخاص الصناعي بلغت 180 ملياراً أضراراً مباشرة وغير مباشرة باستثمارات المدن الصناعية الأربع؛ تفصح عنها3360 منشأة متوقفة عن البناء، و548 منشأة متوقفة عن الإنتاج، و87484 عاملاً عاطلاً عن العمل.

وبيّن الغرير خلال مداخلته في الورشة أن قيمة الخسائر خارج المدن الصناعية وصلت إلى أكثر من 50 مليار ليرة وقد بلغت خسائر المصرف الصناعي في عامي 2011-2012 نحو 4 مليارات ليرة مترافقة مع عمليات تهريب وهجرة كثيفة للمعامل والرساميل إلى الخارج، يضاف إلى ذلك الخسائر في بقية القطاعات الاقتصادية والخدمية التي وصلت حسب بعض التقديرات إلى أكثر من 103 مليارات دولار، تحتاج من أجل إعادة ترميمها وبنائها وتجديدها مئات المليارات من الدولارات في الوقت الذي تتراجع فيه الموارد، متزامناً مع ضعف المصادر اللازمة لذلك من حيث قدرتها على التمويل، ما يؤدي إلى تنامي دور وسطوة تجار الأزمات والوسطاء ووكلاء المؤسسات الدولية وغيرهم من المتآمرين لفرض شروط تتناقض مع المصالح الاقتصادية والسياسية الوطنية في التمويل اللازم لإعادة البناء، في محاولة منهم للتعويض عما عجزوا عن تحقيقه بالحرب والسلاح بالعمل لتحقيقه من خلال الاقتصاد.

وبين الغرير أن الأزمة السورية أفرزت تداعيات خطيرة على الفرد والمجتمع وعلى الدولة ومسيرتها التنموية، تجلت بظهور عدد من التحديات كالتحدي الأمني الذي يفصح عن ذاته بتصاعد وتيرة العنف، وانتشار مفاهيم غريبة عن المجتمع وقيمه وتعاليمه الدينية، إضافة إلى التحدي الاجتماعي مع زيادة أعداد المهاجرين واللاجئين وزيادة معدلات الفقر والبطالة، والتخلل الذي أصاب اللحمة والتماسك الاجتماعي والنسيج الوطني. إضافة إلى وصول معدل التسرب المدرسي إلى نحو 50% وهو ما يعني خسارة سورية عقدين من التنمية.

أيضاً التحدي الناجم عن تشوه القيم والمفاهيم الاقتصادية لجهة سيطرة اقتصاد العنف، مع الاختلال في التوازن بين النفقات الكبيرة والموارد المالية والنقدية المحدودة.

يشار أن الورشة أقيمت يوم الأحد 15 كانون الأول في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، لمناقشة الورقة الخلفية للندوة العلمية التي ستعقد على هامش أعمال الجمعية العمومية للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية بتاريخ 28/12/،2013 وذلك تمهيداً لأعمال المؤتمر العلمي للجمعية الذي سيعقد في ربيع ،2014 وقدمت خلالها ثلاث أوراق عمل ناقشت السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطلوب تنفيذها في المرحلة القادمة في البلدان العربية التي تشهد حركة احتجاجات، كما سلطت الضوء على التحديات التي تواجه الاقتصاد السوري في ظل الأزمة الراهنة. 

 

العدد 1104 - 24/4/2024