الفكر القومي… دعوة للنقد والمراجعة

الحاجة إلى مراجعة الفكر القوميّ، وتجديده..ذلك يشمل الكثير من العناوين، والموضوعات.. والخطوة الأولى هي إجراء مسح شامل لقضايا هذا الفكر تمهيداً لتحديد معالمه، وتياراته، واتجاهاته، ونقاط القوة، والضّعف فيه.. هذا في جانب.. أمّا الجانب الثاني، والأهمّ فهو أنّه لا بدّ من تجديد هذا الفكر، وتطويره في الرّؤية الفكريّة، والممارسة العمليّة..والمسألة هنا تتجاوز في المراجعة، والنقد، الفكر السّياسيّ العربيّ إلى ميادين العلم، والعمل، التي تمسّ حياة الفرد، والجماعة من: فلسفة، واقتصاد، واجتماع وتربية، الخ..

لعلّ بداية المنطلق هو تحديد معنى القوميّة، تمهيداً لتوضيح ما هو الفكر القوميّ؟

القوميّة باختصار، وتبسيط هي: أيديولوجيّة تتضمن: شعوراً، ووعياً، والتزاماً للفرد، أو الجماعة، بالدّولة المواطنيّة الموحدة، والحرص على مصلحتها، وتقدمها.

 والفكر القوميّ، على ذلك، هو الفكر المنتج لدولة المواطنة، وبعدها القوميّ.. وعلى ذلك فالفكر القوميّ يشمل ماله علاقة بالفرد، والمجتمع، والأمّة، والدّولة القومية. كان اهتمام الفكر القوميّ منذ مطلع القرن العشرين اهتماماً سياسيّاً فقط.. ذلك لتثبيت ذاته أمام التّحديات الخارجيّة، والدّاخلية.. لكن هذا يجب أن يتطور باتجاه بلورة رؤية: اقتصاديّة، واجتماعيّة، تدرس قضية التّخلف العربيّ، وآلية الخروج من ذلك. بمعنى الخروج لمواجهة قضايا الحياة، والتّطور، والحداثة، وغيرها، وبلورة صيغ عملية لكسر دورة التّخلف، والدّخول في دورة التقدم.. كسر دورة السّقوط، والدّخول في دورة النّهوض.

إنّها مرحلة تجاوز عقلية التّبشير، والدّعوة، والانتقال إلى عقلية العمل، والبناء، والتّخطيط، والتّنمية، والانفتاح، والإيمان بالعلم، والأخذ به.

إنّ مشاكل التّخلف العربي، وفيها، مشكلة التّجزئة، كلّها بسبب التّخلف الحضاريّ العامّ، ومنه السياسيّ إلى جانب غيره من ضروب التّخلف الأخرى وواجب المفكرين القوميين هو الانفتاح على الدّراسات العمليّة الجادة، والجديدة التي تبحث في أسباب المشكلات وأصولها..

فتدرس دراسة منهجيّة وترسم أساليب المعالجة، وطرق الخروج من التّخلف..

الأهمّ في هذه المسألة هو: توحيد الجهود الفرديّة، والجماعيّة، لتشكيل رافعة عمل، وتيار بنائي، دارس وتنموي، له حضوره في مواجهة قضايا التّخلف، وأدواته: الدّراسات المطلوبة تصل إلى عمق المشكلات، وجذورها، وما يعاني منه المجتمع العربيّ، ولا تشتغل على السّطحي، والمباشر.

بهذه المنهجيّة يتحول الفكر القوميّ إلى فكر قادر على تحقيق أهدافه السّياسيّة بنجاحه في مواجهة المشكلات الاجتماعيّة، والاقتصاديّة الأساسيّة.

لقد عانى الفكر القوميّ من أحاديّة النّظرة، وظلّ أسير نظريّة: أنّ حلّ مشكلات المجتمع يكون عبر السّياسة فقط، ولم يدرك أنّ الطّريق إلى سياسة صحيحة يكون عبر مواجهة المشكلات الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، أو بمعنى آخر أن حلّ المعضلات السّياسيّة لا ينفصل، بل يتكامل مع حلّ المشكلات الاجتماعيّة.

وأنا لا أقلل من شأن العمل السياسيّ، وبالتّالي حجم المشكلات السّياسيّة التي تواجه المجتمع العربيّ من: التّجزئة، والعجز عن إقامة دولة الوحدة، إلى مساحات الصّراع بين العرب إلى الاستعمار، والمشروع الصّهيونيّ في المنطقة، والعجز عن طرح الحلول، ولو بالحدّ الأدنى. يبقى السّؤال مشروعاً: لماذا عجز الفكر القومي عن طرح الحلول؟!

لماذا استمرّ واقع التجزئة، والتفكك، واتساع رقعة التّبعية، والعجز عن ردع العدوان الإسرائيلي

لقد تكرست المشكلات، وأصبحت واقعاً، وظهر عجز كلّ القيادات عن الحلّ، والحلول..

مشكلات العرب كثيرة: التّخلف، والجهل، والفقر، والغنى، والظّلم، والقهر وفقدان الحقوق الأساسية والتّجزئة، والطّائفية، والإقليمية، والتّفكك، وغيرها.. وحلول هذه القضايا لا يكون بالشّعارات، والنوايا الطّيبة، ولا بالارتجال. والحلول لا تكون جزئيّة أو نصفيّة، ولن تصحّ لحساب طرف على حساب طرف آخر. لا يمكن أن نطالب بوحدة سياسيّة، ونحن نمارس التّجزئة، والتّفريق بين الطّوائف، والأجناس.. والمرأة والرّجل، وتكريس الامتيازات، والمنافع، والولاء للخارج، وما يريد.

إنّ مزيداً من الحريات، والنّقد، والمنابر، وتطوير النّظام السّياسيّ العربيّ، هذه كلها مقومات لنقد جديد، ولتجديد في الفكر القوميّ، وآليات عمله، ووعيه الجديد.

العدد 1105 - 01/5/2024