دلالات الانتصار على الفاشية

بذلت جهود استثنائية في أوربا في السنوات القليلة الماضية لإعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية، وكانت ترمي بشكل خاص إلى تعزيز الأسطورة بأن الشيوعية هي أحد أشكال الفاشية ليس غير. ولهذا السبب وصل مؤرخون مأجورون إلى أقصى حدود الحماسة في إنكار الدور المجيد الذي أداه الاتحاد السوفييتي في الانتصار على الفاشية.

قيل لشعوب بلدان الاتحاد السوفييتي السابق والديمقراطيات الشعبية في أوربا الشرقية إن انبعاث الرأسمالية في بلدانهم سيؤدي حتماً إلى عصر من الرفاه والسعادة. والذي حدث كان بالطبع عكس ذلك بالنسبة للأكثرية الساحقة من الناس. فقد فقد الكثيرون أعمالهم وبيوتهم وإمكانية الوصول إلى التعليم والعناية الصحية، ويعيش كل شخص تقريباً في ظروف أزمة مالية شديدة. ولا غرابة عند ذلك أن تتجه أفكارهم إلى مزايا الشيوعية، وأن يصبح الناس قابلين للتعبئة مرة أخرى للإطاحة بالرأسمالية.

في هذه الظروف تحتاج البرجوازية وتوابعها السياسية والأيديويوجية المتزلفة إلى مضاعفة جهودها لتسويد اسم الشيوعية، في حين تجري تعبئة قطّاع الطرق لتدمير الرموز المرئية للماضي الشيوعي العظيم، بعد أن صممت البرجوازية على عدم السماح لجماهير العمال بإعادته. إلى جانب تدمير تماثيل قادة شيوعيين بارزين مثل لينين وستالين، نشهد الآن أعمال التخريب المتعمد، مثل هدم قصر الجمهورية في برلين والنصب التذكارية للحرب السوفييتية في أوكرانيا ودول البلطيق وجورجيا.

بمناسبة الذكرى ال 69 للانتصار على الفاشية التي احتفلنا بها في 9 أيار من هذا العام، نجد من المناسب أن نستعيد ثانية تاريخ الحرب العالمية الثانية، وكذلك الدور الذي أداه الاتحاد السوفييتي، على النقيض من ذاك الذي أدته القوى الإمبريالية التي عارضت هتلر.

تناقضات بينية إمبريالية

إن السبب الرئيس الذي يكمن وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية كان التناقض غير المحلول الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى، أي أن ألمانيا، القوة الإمبريالية النشطة والصاعدة، كانت تطالب القوى الإمبريالية القديمة الهرمة، مثل بريطانيا وفرنسا وهولنداوبلجيكا، بإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم وفقاً لميزان القوى الجديدة. وبخسارة الحرب العالمية الأولى لم تضمن ألمانيا (حصتها العادلة) من الغنيمة الإمبريالية، وخضعت لإذلال معاهدات السلام المجحفة في باريس، التي كان من المحتم أن تدفعها إلى صراع متجدد عندما تسمح الظروف. فضلاً عن ذلك أخفقت هذه المعاهدات في تحقيق (العدل) لليابان، مع أنها كانت حليفة القوى القديمة، وهكذا انتهت اليابان حليفاً لألمانيا في الصراع المتجدد.

تكمن استراتيجية فرنسا للتوسع وزيادة الهيمنة، في أخذ دولة بولونيا الجديدة تحت جناحها، ومحاولة ضمان السيطرة على بلدان صغيرة في أوربا الشرقية تعتمد على فرنسا من أجل وجودها وازدهارها، وفي هذه الظروف أصرت فرنسا على خلق منفذ إلى بحر البطليق لدولة بولونيا الجديدة، علماً أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا إذا ضمت إلى بولونيا أراضي أغلبية سكانها ألمان، وكان هذا، إلى جانب خلق (المدينة الحرة) غدانسك، مصدر استياء ألماني كبير.

إضافة إلى ذلك، فرضت الحكومة البولونية معاهدة ريغا على الاتحاد السوفييتي الناشئ  في معارضة لوزير الخارجية البريطانية لورد كرزون الذي رأى أن الحكمة تقتضي رسم الحدود الشرقية لبولونيا وفق خطوط إثنوغرافية صافية  ناقلة الأجزاء الغربية من أوكرانيا وبيلاروسيا، التي يهيمن عليها مالكو أراضٍ بولونيون إلى (بولونيا الشرقية) مع أن معظم سكانها غير بولونيين.

معارضة الإمبرياليين القدامى الفاترة للفاشية

ظهر تناقض جديد لم يكن موجوداً وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى هو التناقض بين البلدان الإمبريالية وأرض الاشتراكية.

وكان لذلك تأثير مدمر على رغبة القوى الإمبريالية القديمة وقدرتها على مواجهة الطموح الإمبريالي الألماني، لأن القوى الإمبريالية القديمة على العموم، عدّت الحركة الاشتراكية العالمية تهديداً أكبر حتى لمصالحها من قوى إمبريالية مغرورة مثل ألمانيا واليابان. وكانت استراتيجيتها إقناع الإمبريالية لألمانية بتنفيذ رغباتها التوسعية، وذلك بتوجيه عدوانها ضد الاتحاد السوفييتي. ومن هنا كانت المحاولات المشهورة لرئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين لاسترضاء هتلر، من خلال عدم الدفاع عن بلدان صغيرة مثل النمسا وتشيوسلوفاكيا ضد الخطط التوسعية الألمانية، بدلاً من دعم المقترحات السوفييتية من أجل (أمن جماعي) يتم تنظيمه من خلال عصبة الأمم. إضافة إلى ذلك تدخلت بريطانيا لمنع العصبة من التنديد بالغزو الياباني لمنشوريا، والغزو الإيطالي للحبشة، وانضمت إلى معاهدة الاتفاقية البحرية الأنكلوألمانية في عام 1935 منتهكة القيود التي فرضتها معاهدة فرساي على إعادة تسليح ألمانيا.

الانتصار السوفييتي على الفاشية

أعطت معاهدة عدم الاعتداء السوفييتية الألمانية الاتحاد السوفييتي فترة راحة لأقل من عامين. شن الإمبرياليون الألمان هجومهم على الاتحاد السوفييتي في 22 حزيران ،1941 وكان متوقعاً على نحو واسع أن يستسلم الاتحاد السوفييتي خلال أسابيع. أعلن هتلر عند شنّه الهجوم على الاتحاد السوفييتي، الذي رمز إليه بعملية بارباروسا، أنه (يكفي أن نركل الباب الأمامي حتى ينهار كل الصرح الشيوعي المتعفن). ولكن الاتحاد السوفييتي لم يجلس كسولاً خلال الأشهر التي كانت سارية فيها معاهد عدم الاعتداء، بل قام باستعدادات واسعة لمقاومة الهجوم المتوقع. وكانت مفاجأة كبيرة للمحللين العسكريين البرجوازيين أن الهجوم النازي أُرغم على التوقف خارج موسكو.

تزعم البرجوازية أن الشتاء الروسي وحده هزم آلة الحرب الألمانية الجبارة. ولكن حقيقة الوضع شرحها المارشال جوكوف: (لم يكن المطر والثلج ما أوقف القوات النازية عند موسكو. إن القوة النازية النخبوية الهائلة المؤلفة من أكثر من مليون شخص سحقتها الإرادة الحقيقية والشجاعة وبطولة القوات السوفييتية التي كانت هناك للدفاع عن شعبها وعاصمتها وبلدها). قاتلوا كالأسود للدفاع عن حريتهم وديمقراطيتهم البروليتارية.

وكتب الجنرال ماك آرثر عن الهجوم المضاد عند موسكو: (لم ألاحظ في أي من حملات القادة البارزين في الماضي تلك المقاومة الفعالة لأقسى الضربات من عدو لم يسبق أن هُزم.. إن حجم وعظمة الجهد تجعلانه أكبر إنجاز عسكري في التاريخ كله).

تلت ذلك انتصارات مذهلة ورائعة للقوات السوفييتية في ستالينغراد وكورسك ولينينغراد، وتوّجت بتحرير برلين. ولكن هذه الانتصارات كلفت حياة ملايين الأبطال والبطلات السوفييت الذين بذلوا حياتهم دفاعاً عن الحرية والعدل والديمقراطية.

تشعر البرجوازية في البلدان التي تمتعت شعوبها سابقاً بالاشتراكية بمقدار أقل من الأمن بالمقارنة مع أوربا الغربية وأمريكا. ولذلك قد تلجأ في البلدان الاشتراكية السابقة إلى الفاشية كوسيلة وحيدة لكبح الجماهير المستَغلة والمظلومة في تلك البلدان.

العدد 1107 - 22/5/2024