التنوير والعنف… بين الدين والسياسة

العلاقة وطيدة بين العنف السياسي والعنف الديني، وتحالف الاستبدادين، يعود إلى غلبة الاستبداد السياسي الذي يتكئ على الأصولية وتفسير النص الديني.

 إنّ تدخُّل الدين في السياسة يفسد السياسة ويسيء إلى الأوطان، كما أن السياسة أيضاً تفسد الأديان والعقائد نفسها، ويصعب أحياناً تمييز ما هو سياسي وما هو ديني، فالسياسة مجال للصراع بين الطبقات الاجتماعية على توزيع الموارد، ومجال للمنافسة بين الأحزاب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة، وإقحام الدين في السياسة يؤدي بالضرورة إلى انغماس الدين في كل هذا من ناحية، وإلى انحياز الدين إلى البعض دون الكل من ناحية أخرى. فوجود مرجعية دينية مثلاً لنظام سياسي، في بلد ما، لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق مصالح أتباع هذا الدين في هذا البلد، لأنهم ينتمون روحياً إلى الدين نفسه، ولكنهم أيضاً ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة، ويتحول الدين بالتالي إلى أصولية  سياسية محددة.

فالأصولية نظام عقائدي مغلق على ذاته، ويعتقد بأنه يملك الحقيقة المطلقة. ولا نستطيع فهم ظاهرة الأصولية جيداً إذا بقيت محصورة في تراث ديني واحد، بل يجب فهمها من خلال تاريخ الأصوليات جميعها والمقارنة بينها، وفهم التنوير، أو فهم الاثنين معاً. فالمذهب الكاثوليكي كان في العصور الوسطى يعتبر نفسه دائماً الدين الوحيد الصحيح، وما عداه هرطقة، ومن لا يعتقد بعقيدة الكنيسة الكاثوليكية التي يقف على رأسها بابا روما فإن مصيره جهنم وبئس المصير، وأنها وحدها الفرقة الناجية من الدين المسيحي. والرأي المخالف لهذه الكنيسة ممنوع، وينبغي استئصاله بالقوة، وهذا ما فعله الكاثوليك بالبروتستانت طوال القرن السابع عشر. وحالنا اليوم ما نراه من الجماعات التكفيرية والإرهابية في بلادنا، التي تتخذ من الدين (ومن مذهب معين) ستاراً لأعمالها في القتل والسحل وقطع الرؤوس، وأكل الأكباد، باسم الدين، والدين منهم براء، والاقتتال الدائر بين الأنظمة وهذه الجماعات نفسها الساعية من أجل إقامة إمارات إسلامية لكل جماعة على حدة وهي تقاتل ويكفّر بعضها البعض الآخر، إضافة إلى محاولة كل فكر أو مذهب أو تيار أن يطغى على فكر أو مذهب أو تيار آخر.

ومع ابتداء أزمة الوعي الأوربي مع الأصولية الدينية في القرن السابع عشر الذي تشكل في تلك الفترة على أيدي غاليليو، وديكارت، وكيبلر، ولايبينيز، ونيوتن، الذين أسسوا العلم بالمعنى الحديث للكلمة، أدى إلى الصدام بين العلم المستند إلى الاكتشافات العلمية والجغرافية والتاريخية، والأصولية الدينية المستندة إلى جمود تفسير النص عندما كان الإرهاب الأصولي يلاحق العلماء والفلاسفة في شتى أنحاء أوربا. فالفكر دائماً يسبق السياسة، والسياسة تأتي تتويجاً للفكر العظيم، والتغيير لا يحصل إلا بعد تراكم كمي للإبداع الفكري، والمفكرون كانوا يعلمون بأنهم سيموتون قبل أن يقطفوا ثمرة أعمالهم، ولكنهم اشتغلوا، ودفع بعضهم حياته ثمناً لأفكارهم. اللاهوت الغربي قمع كتاب (مقالة في اللاهوت) لسبينوزا، وكتاب (الاعترافات) لجان جاك روسو، وديكارت مؤسس العقلانية، وفولتير زعيم الانوار الأوربية، وغيرهم الكثير من أعلام الفكر التنويري في فرنسا وإنكلترا وألمانيا وإيطاليا، وأقام محاكم التفتيش في إسبانيا بتهمة الهرطقة والزندقة، تماماً كما فعل الأصوليون في بلادنا لاحقاً، حين قامت القائمة على كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) وكتاب(الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، وكتاب (أحوال المرأة في الإسلام) لعلي منصور  والحال هذه مع نزار قباني في ديوان (قالت لي السمراء) وكتاب (النبي) لجبران خليل جبران و(أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، واغتيال فرج فوده، وما فعلوه مع نصر حامد أبو زيد، وغيرهم الكثير.

إن الأصولية الدينية لا تستطيع المعاصرة، وهي على هذه الحال لن تصمد طويلاً أمام النقد التاريخي من أي جهة كانت، ولا يمكنها مواجهة حقائق العصر.

وإذا كانت الهرطقة هي المصطلح العام الدال على الخروج عن تعاليم الكنيسة (أي كنيسة) كما فعل رواد التنوير في الغرب، فإن هذا المصطلح ليس له وجود في التراث الإسلامي، بل درجت مجموعة من المفردات كالإلحاد، والبدعة، والزندقة، وامتدت هذه المعاني، فطالت المشتغلين في العلوم الفلسفية، وعلم المنطق، وأصبحت كلمة منطق مرادفة لكلمة زندقة.

ومنذ قيام الدولة العربية، لم يكن العرب بعيدين عن البحث في مدلولات المفردات التي جاء بها الدين، بل كانوا أيضاً السباقين إلى عصر الأنوار في طرح الكثير من الآراء والأفكار المغايرة للتفاسير السائدة. وفي القرن الأول الهجري ظهر العديد من الرواد الذين أسسوا لما سمي بعلم الكلام، أو علم التوحيد، أو علم العقيدة، الذين طرحوا أفكاراً جديدة تخالف الأفكار السائدة وهم معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، الذين كانوا جميعهم من منطقة بلاد الشام والعراق مرتع ظهور الأفكار والآراء التي توصف اليوم بآراء علم التنوير. وهؤلاء الأربعة الكبار دفعوا حياتهم ثمناً لآرائهم التي طرحوها على الناس، لمجرد أنهم قالوا كلمة خرجت عن إرادة السلطان، ولاقوا حتفهم باسم الزندقة بطريقة مفزعة، ونالوا العنف ما بين الدين والسياسة.

فمعبد الجهني عاش في البصرة في المحيط العربي، وكان معدوداً من علماء القرن الأول الهجري وموصوفاً بالصدق، واشتهرت آراؤه الكلامية حول نقطة واحدة هي نفي القدر، وكان يناقض فيه المذهب الجبري الذي حرص الأمويون على تعميمه بين الناس لقبول الحكم الأموي باعتباره من الله، وأن الإنسان ليس بيده شيء. وتسمّى المذهب القدري بعكس مقصوده، واستند في صياغته الأولى في عبارة مشهورة تقول: لا قدر والأمر أُنف، ونفهم منه أن الأمر مفروض بسطوة الحكام رغم أنف المعارضين، ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر، فالمفروض على الناس فرضه أناس آخرون، ودفع معبد الجهني حياته ثمناً لأفكاره التي عارضت أهل السياسة، بأن مات مصلوباً بعدما أهين إهانات مريرة طفحت بها كتب المؤرخين على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان بدمشق.

أما غيلان الدمشقي فنسب إلى دمشق وعاش فيها بالقرب من باب الفراديس، واشتهر بتقواه وورعه، وتتلمذ على يد معبد الجهني، وكان على صلة بالخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي عهد إليه تصفية أموال الظالمين من أقاربه الأمويين، فأخذ غيلان ينادي لبيعها للناس صائحاً: تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع الخونة! ومذهب غيلان يوافق مذهب معبد الجهني القائل بالحرية الإنسانية، فصار يخالف ما كان يؤكده الأمويون في الجبرية، من أن كل ما كان، وما هو كائن، وما سيكون في المستقبل، إنما هو من أمر الله وقدره وتقديره، غير أن غيلان خالفهم في ذلك ضمناً دون تصريح واضح، ومع ذلك رفض الخليفة عمر بن عبد العزيز صديق غيلان كلامه وآراءه، وشدّد عليه بعدم ترديد أقواله المنادية بالحرية والإنسانية، وقتل غيلان الدمشقي على يد الخليفة هشام بن عبد الملك في مجلس الخلافة بأن زعق فيه: (مُدّ يدك)! فمدّها غيلان فضربها بالسيف فقطعها، ثم قال: (مدّ رِجلك) فقطعها الخليفة بالسيف، وبعد أيام مر رجل بغيلان وهو موضوع أمام بيته بالحي الدمشقي والذباب يقع عليه بكثرة، وقال ساخراً: يا غيلان هذا قضاء وقدر؟ فقال غيلان: كذبت! ما هذا قضاء ولا قدر! فلما سمع الخليفة أحضره وصلبه على باب دمشق.

وثالث المؤسسين لعلم الكلام هو الجعد بن درهم الذي عاش في الشام تحديداً، وكان مؤدباً لأبناء الخلفاء، وهو مؤدب الخليفة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويتلخص مذهبه في أنه يقرر أن الله منزّه عن الصفات، وكان ينكر بعض الصفات الإلهية القديمة، ومنها صفة الكلام بأن اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنّه كلّم موسى تكليماً، ولم يتوسع المؤرخون في بيان المعتقد الذي قال به جعد بن درهم، وإنما اكتفوا بتلك الإشارات وعدّوها دليلاً على زندقته، لأنه أنكر نصوصاً قرآنية تفيد أن الله شارك مخلوقاته والراجح أن جعد بن درهم كان يقول بضرورة تأويل مثل هذه الآيات القرآنية، بما ينزّه الله عن صفات المخلوقات. وقتل جعد بن درهم أشد فظاعة مما لقيه سابقوه، فقد قتله خالد بن عبد الله القسري بجامع واسط بالعراق، ووقع هذا الأمر صبيحة عيد الأضحى في الساعة المبكرة التي يذبح فيها المسلمون الخراف، بعد انتهائهم من صلاة أول أيام العيد وخطبته، وكان الجعد مسجوناً في سجن الأمير، فأخرجوه مقيداً بأغلاله فجر يوم العيد، وجاؤوا به إلى الجامع فأجلسوه أمام الناس تحت المنبر، وفوق المنبر راح الأمير خالد القسري يلقي خطبة العيد التي انتهى فيها بقوله للحاضرين: (ارجعوا فضحّوا تقبّل الله منكم، فإنني مضحٍّ بالجعد بن درهم)! ونزل فاستلّ سكيناً وذبح الجعد تحت المنبر وسط المصلين والناس ينظرون.

أما الجهم بن صفوان، وهو آخر آباء الكلام وأخطرهم جميعاً، فَعُدَّ من مؤسسي حركة الاعتزال، وهو ينكر الصفات الإلهية، صاحب ذكاء وجدال، يقول بخلق القرآن ويقول إن الله في الأمكنة كلها، وأشارت أغلب المصادر إلى أن الجهم قابل الجعد بن درهم بالكوفة، فأخذ منه الكثير، وأنه ثار على حكم الأمويين، وأسس ما يعرف في تاريخ المذاهب العقائدية بالمعطّلة، أي منكري الصفات الإلهية، الذين هم بحب التعبير القديم (النُّفاة) أي الذين ينفون عن الله الصفات الملحقة به، وقتل الجهم بن صفوان بأجواء سياسية تتمثل في ثورته على الحكم الأموي، لأن طبيعة العقلية العربية التي كانت مهيمنة آنذاك، لم تكن ترى الأمر مجرد جدال نظري حول حقيقة النص الديني، أو حول صحة المعتقدات اللاهوتية، فذلك كله عندهم ليس إلا جزءاً واحداً من رؤى متكاملة.

لم يقتصر العنف على ما ورد فقط من حكم الطغاة باسم الدين، لمجرد المخالفة، بل امتد إلى قطع الرؤوس، وخلع الأكتاف، ونشر الأجساد، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصمّ الآذان، وجدع الأنوف، والشوي بالنار (المقفع)، غير مكترثين بأي رادع لا في السماء ولا في الأرض.

والجدير بالذكر، أن آراء هؤلاء الرواد، نتيجة لهذا القمع الوحشي المخالف لجميع الشرائع، ولما جاء به الإسلام من العدل والرحمة والمودة والسلام، لم تُتابع، ولم تستمر، وحصل انقطاع طويل استمر عدة قرون حتى ظهرت آراء وأفكار مكمّلة ومماثلة على يد مفكرين وفلاسفة أمثال ابن خلدون، وابن رشد، والمعري وغيرهم من رواد التنوير.

على هذا النحو دفع مؤسسو علم الكلام ثمناً باهظاً لهذه الآراء والأفكار المبكرة التي طرحوها على الناس في زمانهم، فنظر إليها معاصروهم على أنها  كفر، ورأى فيها الحكام وبعض علماء الدين المتشددين خروجاً عن الدين يستحق العقاب، خاصة أن آراء الأربعة المذكورين ارتبط بالتطبيق الواقعي للمعتقدات الخاصة بالحرية الإنسانية ونفي الصفات الإلهية، التي تأوّلها الحكام بحيث تجعل أفعالهم قضاء وقدراً. وفي الواقع لم تكن الإرهاصات الأولى لعلم الكلام إلا دخولاً في التراث العربي اللاهوتي الذي كان امتداداً طبيعياً للتراث الدينيالذي ساد قبلهم، ومثلما نال الهراطقة نقمة الكاثوليك والأرثوذكس، طالت المتكلمين نقمة المتشددين من المسلمين، فارتبطت المصائر وتوحدت النهايات.

وإذا كانت حركة التنوير عند العرب بداية بعلم الكلام على يد الرواد الأربعة أو امتداداتها على يد ابن خلدون وابن رشد وغيرهم، قد منيت بانتكاسة أو قطيعة لم تقم لها قائمة حتى الآن، نجد أن حركة التنوير الأوربية التي بدأت في القرن السابع عشر حظيت باستمرارية وتواصل على مدى أربعة قرون حتى اليوم، وشهدت صعوداً استثنائياً على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والفكرية.

المراجع:

1- معارك التنويريين والأصوليين  هاشم صالح.

2 اللاهوت العربي وأصول العنف الديني  يوسف زيدان.

3 مجلة (فكر) العدد 111/2010.

العدد 1105 - 01/5/2024