القطيعة المعرفية عند باشلار

إن للتطور التاريخي للعلم مراحل تطور عادي يسير وفق الأطر التقليدية القياسية الاستدلالية لهذه المرحلة أو تلك، ونقاطاً ثورية هي انتقال من إطار قياسي استدلالي إلى آخر جديد، بحيث يكون الإطار القياسي الاستدلالي السائد، هو منهج علمي متفق عليه في أوساط البحث المعرفي الأكاديمي خلال مرحلة معينة، وخلال هذه المرحلة يحقق المنهج العلمي السائد نتائج علمية تتراكم تدريجياً حتى يصل إلى نقطة لا يعود فيها صالحاً لتفسير المعضلات العلمية، فيبدأ العلم بالخروج من فضائه القائم والبحث عن معايير قياسية استدلالية جديدة، فتحصل الثورة. من هذا المنظور، كان تطبيق قوانين نيوتن صحيحاً للفيزياء الكلاسيكية، لكنه لم يعد صالحاً في دراسات علم الذرة، فكانت ثورة منهج الكوانتم.

أول ما ينعكس عن الانتقال الجذري من مقياس استدلالي إلى آخر هو النظرة في تفسير العلم للعالم، وهذا الانتقال الجذري يبلغ حد اللامقياسية uncommensurability)) أي عدم قابلية النظريات العلمية لتفسير العالم بالمقاييس نفسها وتقييمها بالمعايير نفسها السابقة، فلكل نظرية إطارها ومفاهيمها. وإن الحوار بين نظريتين في مرحلتين مختلفتين هو بمنزلة الحوار بين لغتين، ولن يفهم أحدهما الآخر. أي اللاتفاهم. فمفهوم العالم المحدب بالبعد الرابع في النظرية النسبية لأينشتاين، ينسف العالم الثلاثي لنيوتن. ومن مفهوم اللامقياسية يتطور مفهوم القطيعة المعرفية (Reputation of Epistemology) عند باشلار، إذ (تتضمن أزمات النمو الفكري إعادة نظر كلية في منظومة المعرفة)Bachelard, 1938) ) ولاحقاً تتطور المعرفة على قطع الصلة بالماضي دون إنكاره، بحيث يبدأ الإنسان بالعمل وفق منظومة عقلية كلية جديدة أوسع من المنظومة السابقة وأكثر تعقيداً، فمثلاً استخدام الإنسان الطائرة للسفر، ليس استمراراً لاستخدام ترويض الحصان للسبب نفسه، فكلاهما مختلف تماماً. فالقطيعة المعرفية تؤسس وتبني آلية تفكير وأسلوباً عقلياً جديداً كلياً ينطبق على كامل المعرفة البشرية على حد سواء وليس المعرفة العلمية فقط، ذلك أن المفاهيم تتغير وعلاقاتها المتبادلة كذلك بما يتناسب مع طبيعة العقل البشري في كل مرحلة. غير أنه في القطيعة المعرفية أصبحت ذاتية الباحث ليست ملكته الخاصة بقدر ماهي الذاتية الخاضعة لسلطة المنظومة المعرفية التي نسّقها وهندسها العقل الغربي.

العدد 1107 - 22/5/2024