ابن سينا ونظرية الفيض

قال ابن سينا بنظرية الفيض وصدور الموجودات عن الخالق وفق ثلاثة مبادئ:

المبدأ الأول والذي قسم بموجبه الموجودات إلى ممكن وواجب فا لإله واجب بذاته أما الموجودات ممكنة بذاتها وواجبة بالإله، والمبدأ الثاني القائل: لا يصدر عن الواحد إلا الواحد وهو القائل في كتابه النجاة ص453 (إن الواحد من حيث هو واحد إنما يوجد عنه واحد) وقال أيضاً في كتاب الإشارات (الأول ليس فيه حيثيات الواحد لواحدانيته فيلزم كما علمت أن لا يكون مبدأ إلا لواحد بسيط).

و المبدأ الثالث الذي أخذ به ابن سينا هو مبدأ الإبداع أو التعقل وقال إن تعقل الإله هو

(علة للوجود على ما يعقله)..

إلى أن يخلص جميل صليبة في كتابه (من أفلاطون إلى ابن سينا) إلى أن تصوف ابن سينا تصوف عقلي لا قلبي فيقول: نعم ابن سينا يقول إن الإله عاشق ومعشوق ولكن هذا العشق جاف وليس فيه شيء من الحرية لأنه ناشئ تعقله لذاته ولا غرو إذا قام الغزالي على الفارابي وابن سينا ورد عليهما وقد يظهر أن تصوف ابن سينا رجوعاً إلى الحياة والفاعلية والرحمة إلا أن الأمر على خلاف ذلك لأن التصوف عند ابن سينا تصوف عقلي لا قلبي. (9)

أما الحديث عن الزهد والتصوف عند مفكر وفيلسوف بحجم الأمير حسن بن مكزون السنجاري (583-638 هـ) (1187 -1240م) فله متعة ودهشة وآفاقاً خاصة يعكسها المستوى الفني والأدبي لشعره وعمق فلسفته وعفوية وبساطة حياته وتصوفه العملي.حديثنا عن زاهد متصوف خاص جداً ربط بين التصوف والزهد، بين الفلسفة والتصوف وله موقفه وفهمه الخاص للحياة لـ لله للإنسان، وله رأياً حضارياً في ماهية التصوف والصوفية والقائم على احترام إنسانية الإنسان هذا المخلوق الذي فيه ما فيه وله ما له ما يؤهله لأن يكون خليفة الله على الأرض بمنحه كل ما حلّله الله له من طيبات الدنيا وممارسة حقه بعقلانية وحب ووئام على هذا الكوكب. مستندين بحديثنا عن هذا الزاهد والمتصوف إلى ما جاء به حامد حسن في كتابه المكزون السنجاري بين الأمارة والشعر والفلسفة – منشورات دار مجلة الثقافة – دمشق.

والباحث حامد حسن يقارن بين قول ابن سينا والفارابي والمكزون في نظرية الفيض فيرى عشرة فوارق فيما بينهم وكلها جديرة بالدراسة ونذكر منها على سبيل المثال بعضها للتدليل على طبيعة العلاقة بين الرؤى ومدى توافقيتها واختلافاتها في آفاق مفتوحة فيقول مثلاً حامد حسن:

الفارق السادس – العقل الفعال عند الفارابي يشرق دائماً وينير العالم بالحقائق فتتلقاها النفوس الصافية لتعبّر عنها بلغة بشرية تجعلها في متناول حواس الآخرين ويستطيع الفيلسوف وحده بفضل المنطق والتأمل العقلي أن يرتقي حتى مصدر هذه الحقائق أعني العقل الفعال. ويدركها جلية واضحة، وبتعبير أوضح يستطيع الفيلسوف أن يفهم الصور العقلية القائمة في العقل الفعال، وهذه نظرية أرسطو، وفي هذا يلتقي المكزون معه لأنه يرى الموجودات قائمة بإشراق العقل الفعال.

وسركم في الكل سار، وإنما     على كل قلب ضل فهمه قفل (ص 381).

ويقول في الفارق السابع بأن الجميع اتفقوا على أن العناصر الأربعة هي أصل العالم المركب وإن اختلفت التسمية فالمكزون يسميها أكواناً فهو يزيد على الأكوان الأربعة والتي هي (الماء. الهواء، التراب، النار) كوناً خامساً وهو كون (النور) وكون النور هذا خاص بالإنسان وهو الذي يميزه عن الحيوان والنبات ويرى في البند الثامن أن عند المكزون القائلين (بعرفانه) نوراً سادساً أو كوناً سادساً يسمونه (قدس المعرفة) وهو نور يشرق على نفوس الحكماء والفلاسفة فيمتازون عن البشر بما يفهمونه ويتصورونه عن عالم المجردات.. ليخلص حامد حسن ليقول في هذا الشأن: نرى المكزون يتميز عن الفارابي وابن سينا بالقول في تميز الإنسان عن الكائنات الأخرى

فهو العلّية والسّببية بينما غيره يقول بتميز الإنسان والإنسان الحكيم ولكن بدون تعليل فلسفي. ومن بدهيات الفلسفة أن لكل معلول علّة ولكل مسبّب سبباً

والفارق العاشر هو: يرى أن المكزون يتفق معهما بأن العقول والأفلاك العلوية هي ملائكة وأن الملائكة هم وساطة بين العالم العلوي والعالم الأرضي.. ص382-381

إذا وكما هو ملاحظ نجد أن فلاسفتنا المتصوفين أو المتصوفين الفلاسفة حاولوا التوفيق والجمع بين نظرية الفيض من حيث بذرتها الأولى عند أرسطو ومن ثم انطلاقتها من بين أنامل أفلوطين وتلمس تصاريحها الواضحة عند الصابئة وبين الدين، كما حاولوا ذلك بنظريات عدة مثل قدم العالم وحدوثه والنفس والروح..الخ لكي يتجنبوا ربما تقريظ واتهاالفقهاء وعلماء الكلام، وبطش الأمراء والسلاطين..

فهل نجحوا فيما ذهبوا إليه أم بقوا في المنتصف لا هم كانوا فلاسفة أحراراً، ولا علماء كلام، ولا حتى نجحوا في حمل ذواتهم القلقة إلى بر الراحة والآمان كما نجحت بعض الصوفية؟؟

 

 

 

9 – الدكتور جميل صليبا – من أفلاطون إلى ابن سينا – الهيئة العامة للكتاب – الكتاب الشهري العاشر – دمشق- اختيار وتقديم د نزار عيون السود ص115

العدد 1105 - 01/5/2024