السياسة الأمريكية من ترومان إلى إيزنهاور.. سورية في عين العاصفة

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ بتشكل نظام عالمي جديد يختلف كلياً عن النظام العالمي السابق للحرب. لذلك بدأت الولايات المتحدة تتعامل مع نتائج الحرب وتبني استراتيجيتها على قاعدة حصار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية التي أصبحت منظومة سياسية هامة يحسب لها حساب، وذلك ببناء جدار من الأحلاف تحت مسمى (مكافحة الخطر الشيوعي)، وأصبحت هذه السياسة السمة الأساس لسياسة الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، وشرعت واشنطن عما سمته (تحمل مسؤولياتها والتزاماتها) البيان السياسي الذي أطلقه الرئيس ترومان عام 1947 وعرف فيما بعد بمبدأ ترومان، يتجاوز فيه الخطوط العريضة التي كانت تقوم عليها سياسة الولايات المتحدة، بعد أن تخلت بريطانيا عن بعض التزاماتها تجاه الدول التي جرت فيها أحداث لم تعد قادرة على الإيفاء بتعهداتها تجاهها مثل تركيا واليونان. وتضمن مبدأ ترومان رسم سياسة جديدة للولايات المتحدة هدفها الوصول إلى الشرق الأوسط، ومنع وصول الاتحاد السوفييتي إلى المنطقة، ويهدف السيطرة عليها وجعلها تابعة لنفوذها، لتحقيق مصالحها الاقتصادية وخاصة السيطرة على حقول النفط، والعمل على إنشاء حلف يضم دول المنطقة، واستكمال دائرة الحصار المفروض على الاتحاد السوفييتي، الذي بدأ من الغرب بتشكيل الحلف الأطلسي، ومن الشرق حلف جنوب شرقي آسيا، بإقامة حلف يضم دول المنطقة، الهدف منه منع دولها من الاعتماد على الذات، والعمل على زيادة الخلافات فيما بينها، ومنع التفكير في صعود أي تيار وطني قومي يدعو إلى قيام دولة عربية موحدة، وإقناع العرب بأن العدو الذي يهددهم هو الخطر الشيوعي، لا دولة إسرائيل. وجعل هذه الدول واقعة تحت دائرة نفوذها.

ومع قيام الثورة في مصر عام 1952 التي بدأت بإعادة بناء الجيش وعملت على تسيلحه، وتطلعت نحو تنمية اقتصادية شاملة، وشرعت في طلب القروض لبناء السد العالي، وخاصة من البنك الدولي عن طريق الولايات المتحدة التي اشترطت، للتجاوب مع هذه الطلبات، بالموافقة على الصلح مع إسرائيل، فرفضت مصر هذه الشروط. ومع تبلور السياسة المصرية المتعارضة مع الغرب، بدأ جدياً التفكير بالوقوف في وجه هذه الاندفاعة الوطنية بإقامة حلف يضم دول المنطقة وبضمنها مصر. فأعلنت كل من تركيا والعراق، عام 1955 عن اتفاق عسكري بينهما الهدف منه تحقيق التعاون، وضمان الاستقرار والأمن في الشرط الأوسط، ويدعو الحكومات العربية للانضمام إلى هذا الاتفاق، الذي قابلته سورية ومصر بالرفض، وسارعت بريطانيا ثم باكستان وإيران بالانضمام إليه، وأصبح يعرف فيما بعد بحلف بغداد الذي يرمي في النهاية إلى حماية إسرائيل، وجرت مساع حثيثة لضم الأردن، ورغم موافقة الملك حسين، إلا أن الأوضاع الداخلية الأردنية منعت تحقيق ذلك. وما كان لهذا الحلف أن يتشكل لولا الجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومة الأمريكية.

ولما كان الموقف المصري رافضاً لتشكيل هذا الحلف وسياسة الأحلاف عموماً، ولأن مصر عمدت إلى تأميم قناة السويس بعد رفض البنك الدولي تمويل بناء السد العالي، قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بالعدوان الثلاثي تكونا على مصر، الذي أدى بالنتيجة إلى انتصار الشعب المصري، وهزيمة كل من بريطانيا وفرنسا اللتين لم تكونا قد سلمتا بعد قيادة المعسكر الغربي للولايات المتحدة التي وجدت في هزيمتهما وخروجهما من الشرق الأوسط فرصة سانحة لتغيير مراكز القوى وأخذ زمام المبادرة على لسان الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور، فطرحت نظرية ملء الفراغ، وإحلال السلام وإعادة الاستقرار في المنطقة، قبل أن تتعرض المصالح الأمريكية فيها للخطر ولتجنيب هيمنة الاتحاد السوفييتي عليها، وقد اصطلح على هذه النظرية بمبدأ إيزنهاور الذي جاء بصيغة خطاب ألقي بتاريخ 5 كانون الثاني 1957 تضمن:

ـ استعمال القوات المسلحة الأمريكية لحماية السلامة الإقليمية، والاستقلال السياسي للأمم التي تطلب مثل هذه المساعدات ضد العدوان المسلح، لحماية أية دولة تسيطر عليها الشيوعية العالمية.

ـ تقدم الولايات المتحدة الأمريكية معونات عسكرية لأية دولة من دول الشرق الأوسط ترغب بذلك.

ـ تقوم الولايات المتحدة بتقديم المعونة الاقتصادية لدول الشرق الأوسط من أجل تنمية اقتصادياتها.

وطلب الرئيس من الكونغرس منحه حق توزيع مساعدات اقتصادية لمساعدة شعب الوطن العربي، ولاسيما في الشرق الأوسط اقتصادياً وعسكرياً، مساعدة مشروطة، للتصدي لأي خطر شيوعي، وحق إرسال القوات المسلحة الأمريكية للدفاع عن أي من الحكومات الصديقة في الشرق الأوسط. (1).

قوبل هذا الخطاب وماتضمنه بردود فعل قوية من قبل العديد من الدول العربية، وأصدرت الحكومة السورية بياناً في العاشر من كانون الثاني، رفضت بموجبه نظرية ملء الفراغ، ورفضت أن يكون للدول الكبرى الحق في التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وأعلنت أن الخطر المباشر الذي يهدد الوطن العربي ليس الشيوعية، وإنما الاستعمار والصهيونية، وأدلى وزير الدفاع خالد العظم بتصريح قال فيه: (لقد أدلت الحكومة السورية رأيها في مشروع إيزنهاور بشكل صريح لا يترك مجالاً للغموض وسوء التفسير، ونحن نؤكد هذا البيان الصادر بعد دراسة عميقة لجميع النواحي التي تضمنها المبدأ) (2).

وحدث انقسام في الصف العربي، إذ رفضت سورية ومصر هذا المبدأ رفضاً فورياً وواضحاً، بينما وافقت عليه كل من الأردن والسعودية ولبنان، (وطبعاً العراق)، مما أدى إلى توتر العلاقات السورية الأردنية التي كانت تعيش شهر عسل على مدى عام 1956 من خلاله تحسنت فيه العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية. ونتيجة لتوتر هذه العلاقات، صرحت الإدارة الأمريكية بلسان البيت الأبيض (أن الرئيس إيزنهاور ووزير الخارجية دالاس يعدان استقلال الأردن وسيادته وسلامة أراضيه أمراً حيوياً وأساسياً للمصالح الوطنية الأمريكية والسلام العالمي) (3).

وبهذا التصريح دخلت الولايات المتحدة لاعباً أساسياً في توتر العلاقات السورية الأردنية وزيادة شرخها، وزادت من ضغوطها على سورية من أجل القبول بمبدأ إيزنهاور، ولاسيما بعد زيارة وفد سوري رفيع المستوى إلى الاتحاد السوفييتي وتوقيع اتفاقيات عسكرية واقتصادية هامة. واتخذت أمريكا من الأردن ورقة ضاغطة على سورية تحت ذريعة زيادة النفوذ الشيوعي فيها، واتهمت كل من سورية ومصر بتهديد استقلال الأردن، وأنها قد تدخل حرباً مع سورية إذا ما هوجم الأردن، وبدأت بتنفيذ مخطط لقلب نظام الحكم عن طريق انقلاب عسكري أعدت له دوائر المخابرات الأمريكية بالتعاون مع الأجهزة الأردنية، وتواطؤ بعض الضباط في الجيش السوري. لكن هذا الانقلاب فشل، إلا أن المساعي الأمريكية لم تتوقف، فاستعانت بالحليف ا لتركي مستخدمة ذريعة تزايد النفوذ السوفييتي لتطبيق مبدأ إيزنهاور، لكن هذه المرة عن طريق القيام بعمل عسكري مباشر يبدأ بتحشيد القوات التركية على الحدود السورية الشمالية، وقيام إسرائيل بأعمال استفزازية، وحشد القوات العراقية على الحدود الشرقية بهدف صد العدوان الإسرائيلي، والبدء بغارات عراقية وتركية على القرى السورية، وبدأ الزحف التركي العراقي على سورية، ومناشدة الولايات المتحدة للتدخل، والمساعدة لصد الهجوم السوري على البلدين، في أول تطبيق لأهداف حلف بغداد.

رفضت سورية الاتهامات الموجهة إليها بأنها أصبحت تابعة للاتحاد السوفييتي، وأكدت تمسكها بسياسة عدم الانحياز، وأنها لا تنوي مهاجمة أي من جيرانها.

وقد وجه الاتحاد السوفييتي مذكرة إلى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تحذر همها من التدخل في الشؤون الداخلية لدول منطقة الشرق الأوسط، إلا أن الموقف الأمريكي والبريطاني والفرنسي كان موحداً ضد سورية، وأن الوضع في الشرق الأوسط يشكل خطراً على السلم العالمي، لكن الموقف السوفييتي كان حاسماً على لسان وزير الخارجية أندريه غروميكو مؤكداً (أن على الذين يتدخلون في شؤون سورية الداخلية أن لا ينسوا الدرس الذي تلقوه في العدوان على مصر عام 1956)(4). أدى هذا الموقف الحاسم إلى تراجع الموقف الأمريكي، وخروج سورية من تلك الأزمة. وإذا كان عام 1956 عاماً وطنياً مصرياً بامتياز، فإن عام 1957 كان عاماً سورياً وطنياً بامتياز.

إن الدخول في تفاصيل أحداث ذلك العام، إنما يدلل على التشابه الكبير بين ما جرى بالأمس وما يجري اليوم. وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً على مبدأ إيزنهاور، نرى أن سورية ما زالت في نظر السياسة الأمريكية في عين العاصفة، وأن جميع الرؤساء الأمريكيين ما بعد إيزنهاور، كانت لهم الأهداف نفسها والسياسة نفسها.

المراجع:

1ـ مجلة الفراهيدي، عدد 8/2011. م.م. محمد عماد دريف.

2ـ المرجع السابق.

3ـ المرجع السابق.

4ـ المرجع السابق.

 

في العدد القادم: من بوش إلى أوباما

العدد 1105 - 01/5/2024