الفارابي ونظرية الفيض

إن الدارس لمراتب المتصوفة ودرجاتهم ومقاماتهم وأحوالهم يدرك كم أصابهم وأُلحق بهم من ظلم وحيف وسوء فهم وتقدير، وكل ذلك مردّه تلك القراءات الخاطئة لتجاربهم الروحانية..القراءات المستندة في كثير منها على التناول الحرفي للنص ومحاكمته وفق فقه شرعي لا يقبل التأويل والدلالات، وأيضاً تم ذلك بعيداً عن وجوب تناول هذه التجارب ومكابداتها ومجاهداتها – التي أنتجت بوحاً عذباً، جاء على شكل تلميحات حيناً وتصريحات حيناً آخر -… وفق سياقاتها وتطوراتها وتناميها المعرفي. ولا يخفى على أي دارس ما تم تناوله على أيدي الفقهاء وعلماء الكلام، مثل ابن القيم الجوزي وابن تيمية وغيرهما.. فنجد تاريخياً أن الصوفيين لاقوا ما لاقاه الفلاسفة على أيدي علماء الكلام والفقهاء من اتهامهم بالتكفير والزندقة، لا بل زادوا على ذلك، إذ تم رميهم بالجنون وتعطيل العقل وإبطال الشريعة والقول بالمعجزات والخواريق..إلخ، ولنا أنموذج عن طبيعة العلاقة بين الفلاسفة والفقهيين في ذاك السجال النقدي الذي دار بين الغزالي وابن رشد، وهجوم الغزالي العنيف على الفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة)، ورد ابن رشد عليه في كتابه (تهافت التهافت)، وفيه نعت الغزالي بالجهل والغباء، علماً أن الغزالي يعتبر من المنفتحين والمتنورين نسبياً إذا ما قورن بغيره..

وتخبرنا كتب التاريخ أن علماء الكلام والفقه كانوا على الدوام يشنون هجوماً مزدوجاً: على الفلاسفة ليكفّروهم، وعلى المتصوفة ليتهموهم بالجنون وتعطيل الدين وإبطال الشريعة وغير ذلك.. من تهم تضج بها كتب التاريخ.

لسنا بصدد ذلك، ولكن ما يمكننا الحديث عنه هنا هو ما تعرض له مفهوم التصوف وأساطينه من خلط بينهم وبين الفلاسفة، وذلك ربما لأن المتصوفة قد أغرقوا في الغموض بتصريحاتهم وتلميحاتهم، واستخدموا الكثير من مصطلحات ومفاهيم اشتغل بها وعليها الفلاسفة ، كما قالوا بنظرياتهم وعملوا على شرحها.

إلا أنه لا يخفى على كل دارس متعمق لتجارب الصوفية أنهم ليسوا بفلاسفة، لسبب بسيط نقوله الآن – ويمكن لنا الاسترسال بشرح أسباب النتيجة تلك – وهو أن الفلسفة هي إعمال للعقل وبالعقل.. بالفكر وللفكر، ومن أين له هذا العقل الحادث المحدث من إدراك القديم؟! من أين لهذا المخلوق أن يدرك ماهية الخالق؟! من أين لهذا المحدود والمتناهي من إدراك اللامحدود واللامتناهي، بينما التصوف هو علم باطني قلبي لدني يعتمد القلب مستقراً وناشراً..

فالقلب واحة الأسرار والأنوار الربانية القدسية ومستقر الحقيقة والحق..ألم يقل سبحانه وتعالى: (من يؤمن بالله يهد قلبه) (1). أولم يقل الرسول محمد صلوات الله عليه (العلم علمان: علم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه، وعلم في القلب فذلك العلم النافع). أخرجه الترمذي.

وكذلك قوله ((ص)) (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن). ولكن هل يمكن للفلاسفة أن ينعتوا أو أن يكونوا صوفيين مثلاً؟! وهل صوفيتهم ستكون لها الملامح ذاتها الواسمة من مكابدات ومجاهدات و.. و.. الخ مما تزخر به نفوس الصوفية وقلوبهم.

فكم من باحث صوّف الفلاسفة أمثال (ابن سينا، ابن رشد، ابن الفارض،أبو حيان التوحيدي، أو ذاك العالم الحكيم مخترع آلة القانون الموسيقية وشارح كتب أرسطو الفارابي المعلم الثاني.. إلخ)! وكم من باحث ودارس أيضاً فلسف التصوف أمثال (الحسين بن منصور الحلاج، السهر وردي، ابن سبعين، محيي الدين بن عربي.. إلخ). ومما لاشك فيه أن الفلاسفة استخدموا واشتغلوا كما قلنا على المصطلحات والأفكار والنظريات ذاتها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر (التجلّي – النفس – الفيض)،

وإذا توقفنا لهنيهة عند الأخيرة نرى أن العديد من المتصوفة والفلاسفة قالوا بها واشتغلوا عليها، اختلفوا حيناً واتفقوا أحياناً. ونظرية الفيض هي النظرية التي تبين لنا كيفية صدور الموجودات عن الأول، فالوجود يصدر عنه كما يصدر النور عن الشمس وكما تصدر الحرارة عن النار. كان هناك قانون لتطور الكائنات وانتقالها من الواحد إلى الكثير، من الأول إلى العقول أي من الوجود الأبدي إلى الوجود الزماني المتغير. (2)

وأول من قال به، في رأي الكثير من مؤرخي الفلسفة، هو أفلوطين الذي يقسم العالم إلى قسمين عالم المعقول وعالم المحسوس، والمعقول قسمه ثلاثة هي: الواحد، والعقل، والنفس.. فالواحد إذاً يفيض فيتكون العقل الذي يفيض فتتكون النفس التي تفيض هي الأخرى فتتكون المادة. وعند المادة يستنفد الفيض إمكانيته،فلا يترتب على المادة أي فيض أو إبداع (3)

المادة غير فانية، سرمدية، ما يفنى فيها فقط شكلها لا هي.. ومن البديهي أن تكون المادة سرمدية غير فانية وأن ما يفنى هو شكل المادة لا المادة، وهذا يؤدي إلى أن الخلق من العدم أمرٌ غير وارد في نظرية الفيض بعامة، وما يؤدي أيضاً إلى أن القصدية في الخلق أو الإبداع أمرٌ هو الآخر غير وارد، إذ إن الإبداع الذي هو نتيجة الفيض مرتبطٌ بالكمال الإلهي..(4)

وعن المؤسس الأول ومنه أخذ كثير من الفلاسفة الذين جاؤوا من بعده، الغربيين منهم والشرقيين سواء، أما الصابئة في الشرق فقالوا بها أيضاً وقسموا الوجود إلى وجودين اثنين: وجود روحاني وآخر جسماني. ويتصف الوجود الروحاني بأنه نوراني علوي نظيف، ويتصف الوجود الجسماني بكونه ظلمانياً سفلياً كثيفاً…(5)

ويتحدث الصابئة في نظريتهم هذه عن موجودات روحية عشرة. وهي الباري والعقل والنفس والروحانيات السبعة..ويبدأ الفيض بالباري أو الواحد الذي يفيض فيتكون العقل. أي (أن الواحد حقاً لا يصدر عنه إلا الواحد)..وهذا الواحد أو العقل جوهر مجرد بالضرورة من المادة وهو (غير متحيّز، ولا حالٌّ في المتحيز ولا يكون وجوده منه على سبيل الاختيار بل على سبيل الإيجاب بالذات، كما أن فيضان النور عن قرص الشمس والضوء عن السراج والإحراق عن النار ليس بالقصد والاختيار، بل بالإيجاب، فكذلك فيضان هذا الجوهر من الله تعالى) (6).

ويرى الباحث حامد حسن أن كثيرين من مؤرخي الفلسفة يُجمعون على أن أول من جاء بنظرية الفيض هو أفلوطين، وعنه أخذ كثيرٌ من الفلاسفة الذين جاؤوا بعده، ومن أشهر فلاسفة العرب الذين قالوا بهذه النظرية الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا.. حتى تأثر بها الكندي والرازي.. ويقال إن نظرية الفيض مشتقة من نظرية الكواكب عند أرسطو.

وكل من قال بها اتفقوا على تسلسل الخلق وخصوصاً الفارابي وابن سينا، فاتفقا على أن العالم العلوي يبدأ من الأعلى إلى الأدنى، من العقل الأول حتى العاشر، والعالم السفلي أو الأرضي على العكس يبدأ من الأدنى إلى الأعلى من الجماد إلى الإنسان ماراً بالحيوان والنبات، لكن ابن سينا يرى الأفلاك والعقول ملائكة، وأن العقل الفعال هو جبريل أو شبيه به عند الفارابي، وكلاهما يريانه واسطة العالمين وأن الإنسان مميز عند الله فقد بدا الخلق بأشرف الجواهر (العقل الأول)، واختتم الموجودات (الإنسان) وأنه العالم الصغير، فبالحيوانية يشارك الحيوان، وبالطبيعية يشارك النبات وبالإنسانية، يوافق الملائكة (7)

فالفارابي أفاد في قوله بنظرية الفيض مما جاءت به الصابئة أو الأفلوطينية الحديثة، وحاول إعادة صياغتها وفق منهج عقلي تخيليي أراد من خلاله بناء علاقة جديدة لفهم ماهية الذات الإلهية الواجبة الوجود وما بعدها، لتنبسط أمامه أبجديات قراءة ممكنات الوجود وتراتبيتها، فرأى في عيون المسائل (أن الوجود الأول هو الله وهو واجب الوجود، ولا غاية من وجوده، فغايته بذاته، ولكن وجود واجب الوجود يلزم ضرورة أن يوجد عنه سائر المخلوقات (فيضاً) عن وجوده الأول الواجب الوجود، فوجود غيره فائض عن وجوده، وعلة وجود العالم ليس (إرادة) الخالق القادر، بل علمه بما يجب عنه، فالأشياء ظهرت لكونه عالماً بذاته، فإذاً علمه علة لوجود الشيء الذي يعلمه) (8).

 

 

الهوامش

1 – سورة التغابن الآية 11

2 – الدكتور جميل صليبا – من أفلاطون إلى ابن سينا – الهيئة العامة للكتاب – الكتاب الشهري العاشر – دمشق- اختيار وتقديم د نزار عيون السود ص 98

3 – ص16البنية الجمالية في الفكر الإسلامي -الدكتور سعد الدين كليب منشورات وزارة الثقافة دمشق ئ-  1997ئص16

4 – نفس المصدر ص21

5 – الشهرستاني محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل ص17 نقلاً عن الدكتور سعد الدين كليب المصدر 22 ص22

6 – مذهب الذرة عند المسلمين ترجمة محمد عبد الهادي أبو زبدة – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – 1946 نقلاً عن ذات المصدر 22 ص23

7 – المكزون السنجاري بين الأمارة والشعر والتصوف والفلسفة الجزء الأول – حامد حسن – دار مجلة الثقافة – دمشق ص372-373

8 – نفس المصدر ص367

العدد 1105 - 01/5/2024