تدوين المناضلين لمعارفهم خير تتويج لأفعالهم

لم يشهد أبناء الوطن الذين لم تتجاوز أعمارهم الستين عاماً ألوان الاستغلال والاضطهاد والعسف الذي كان سائداً أيام سطوة النظام الإقطاعي المتوحش في بلادنا، وأكثرهم لم يسمع أو يقرأ عن الظلم الذي كان يمارسه الإقطاعيون وأجهزة أمن السلطات، التي كانت مسخّرة لخدمة مصالح الإقطاعيين وأغنياء الريف والمدينة على حساب أكثرية أبناء شعبنا المسحوقة.

الكتاب القيم الذي صدر حديثاً عن دار الفارابي ببيروت من إعداد المؤرخ الدكتور عبد الله حنا بعنوان (من الجبل العلوي إلى عاصمة بني أمية / دروب الكفاح للطلائع اليسارية ودور دانيال نعمة ورفاقه) يقدم إضاءة مفيدة وهامة عن تلك الظروف. حيث تناول بالدراسة التاريخية والتحليل الطبقي والاجتماعي، مرحلة هامة من تاريخ جزء هام من البلاد السورية، ومن نضال الشيوعيين السوريين في تلك المرحلة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1970 وبعض امتداداتها.

قدم المؤلف للكتاب بدراسة للواقع الاقتصادي الاجتماعي في النصف الأول من القرن العشرين، وتوضع الطبقات الاجتماعية والعشائرية، مستعرضاً مراحل ظهور التيارات الوطنية اليسارية في ذاك المحيط، ونشوء وتصاعد الحركة الفلاحية المناهضة للإقطاعية. وعلى مدى خمسمئة وخمسين صفحة يعرض فيها الأحداث المتلاحقة، متضمنة المعلومات الموثقة من مصادرها المنشورة في صحافة الحزب وغيرها من الصحف النهضوية والرسمية، أو المؤرشفة والمحفوظة، أو التي بحث عنها المؤلف ميدانياً، وأخذها عن لسان شهودها، متحققاً من صحتها كما يفعل المؤرخ الحصيف. ويستعرض بعضاً من سيرة الرواد النهضويين في منطقة الساحل، بدوي الجبل، أدونيس، غانم ياسين، وجيه محي الدين، عبد اللطيف اليونس. وبداية تشكل الأحزاب الاصلاحية واليسارية، ودور الطلائع الماركسية الأولى، المدرس زهير ناجي، رئيف خوري، وأوائل الشيوعين زكريا حسن، وذيب قطيرة، وميشيل عيسى، وعبدالله ابراهيم. وأبرز المنظمين، بدر مرجان، فايز بشور، وحنا مينه الروائي الذي ذاع صيته فيما بعد، والذي كتب : (كرست كل ما كتبت في سبيل الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض ولمّا أزل))، ومحمد الحاج حسين، وأحمد فاضل، وعبد الرحمن مسيوت، وكامل كساب، وموريس صليبي، وعبد الكريم طيارة ودانيال نعمة، وحبيب حسن، وجرجس عيسى. والصحف المحلية والعربية: الصرخة، الإنسانية، صوت الشعب، الأرض للفلاح.

ويتناول في الأبواب الثالث والرابع والخامس مواقف الحزب الشيوعي السوري من الفلاحين، ومع الفلاحين، ومن أجل مطالبهم وحقوقهم، والعمل على تنظيم صفوفهم في مقاومة استبداد الإقطاع، وللحصول على ملكية الأرض التي يعملون بها، وحقهم في جني نتائج تعبهم في الجبال الساحلية. وصوراً من المعارك الطبقية والانتخابية للكادحين في بيئة تسودها العلاقات العشائرية والطائفية.

وفي الباب الحادي عشر يستعرض سياسة ومواقف الحزب في المسألة الزراعية، فيما يخص تحديد الملكية، والإصلاح الزراعي، وتصفية بقايا الإقطاعية. وفي هذا القسم من الكتاب ترتسم صورة كفاح بعض الشيوعيين، وتفانيهم في توعية الفلاحين بواقعهم الطبقي وتحريضهم للعمل على تغييره.

وتطهر صورة المناضل المثال بدر مرجان سائراً على قدميه في دروب الجبل بين القرى، حاملاً على منكبيه سلال البيض والصابون، وعزيمة نشر أفكار العدالة الاجتماعية والمستقبل الاشتراكي،ويتطرق لدور العديد من المناضلين محمد حكيم، وأسرة الشيخ صالح ذيب. ويثبت صوراً من نضال الشعب السوري والشيوعيين بعد الاستقلال ضد الأحلاف الاستعمارية، والسلطات الديكتاتورية، ويروي الكثير من مشاركات دانيال نعمة النضالية في المراحل المتتالية من تاريخ سوريا الحديث. ويلقي الأضواء على الدور القيادي للرفيق فرج الله الحلو، وعلى مسؤولية تعسف الأجهزة الأمنية في إسقاط  الوحدة بين سوريا ومصر.

وفي الكتاب عرض واضح للمراحل التي طبُقّ فيها الإصلاح الزراعي، وموقف الحزب الشيوعي فيها. ويظهر دور ومساهمات دانيال نهمه في بلورتها، وإيضاحها بمقالات وتقارير عديدة أعدها لقيادة الحزب، وصولاً لبرنامج الحزب في المسألة الزراعية.

ويمر المؤلف على المراحل الأولى من حكم البعث للبلاد، وتطور علاقاته بالحزب الشيوعي السوري، إلى إعلان الجبهة الوطنية التقدمية، وهناك صفحات تحدثت عن المؤتمر الثالث للحزب وتفجر الأزمة الداخلية بعده، وانقسام الحزب.

والكتاب مرفق بجملة من الوثائق التي تمَكَّنَ دانيال نعمة وبالتعاون مع أسرته من حفظها، ومن ثم وضعها تحت تصرف المؤلف المؤرخ. وقد أظهرت أن دانيال نعمة الذي ولد في المكسيك وترعرع في بلدة مشتى الحلو قد انتسب للحزب الشيوعي السوري عام ،1945 وتدرج في المسؤوليات الحزبية، وتمرس في إتقان العمل النضالي في الظروف السرية والعلنية، في جبال الساحل ومجمل أراضي محافظة اللاذقية والمزة وتدمر، وصولاً للمناصب القيادية العليا في الحزب والجبهة الوطنية التقدمية، وقد توفي عام 2003 وهو لا يملك، كما صرح أولاده، أي رصيد في المصارف، وهذا أمر ليس غريباً عن المناضلين الأتقياء الأنقياء. ولسان حاله كما كتب عام 1992 (إنني سأبذل جهدي، طالما بقيت جياً، كي أبقى بالنسبة إلى المثل والمبادئ والقيم التي ناضلت في سبيلها طوال ستة واربعين عاماً، كما كنت منذ أن انتسبت الى الحزب في أواسط أيار عام ،1945 أي يوم كنتُ في العشرين من عمري، قمة عنفواني وحماستي واستعدادي لكل تضحية).

لقد كان للشيوعيين السوريين إسهامات كبيرة في كل ميادين التطور الاجتماعي، والانجازات التي تحققت للشعب السوري والطبقات الفقيرة طوال تسعة عقود من الزمن. وبين دفتي هذا الكتاب صفحات مضيئة منها. إن هذه التضحيات والإسهامات ليست وقفاً على منطقة بعينها، إذ يملك الكثير من كوادر الحزب الشيوعي معلومات عن أمثالها في مختلف المحافظات. وإذا انقضى العمر لأي منهم ستمضي معه وتفتقدها الأجيال القادمة، أو تتعرض للتأويل أو الارتباك والشك في صحتها.

إن توجيه مثل هؤلاء الرفاق لتدوين ما لديهم من معلومات وخبرات مشهودة قبل أن يطمرها النسيان، فضلاً عن أهميته في تزويد الرفاق الجدد والأجيال الآتية بقاعدة معرفية عن تلك التضحيات والخبرات النضالية المتراكمة، التي يعتز بها كل الوطنيون والتقدميون، وتدفع الأجيال الشابة للبناء فوقها واستلهامها في نضالهم الوطني والتقدمي. يجب أن ينظر لهذا الأمر أيضاً، باعتباره شأناً عاماً، وإظهاراً للحقيقة التاريخية.

العدد 1105 - 01/5/2024