الثورة الفرنسية العظمى

(أن تكون على قيد الحياة في فجر هذه الأحداث، فتلك نعمة، أما أن تكون شاباً فقد أدركت الفردوس بعينه)!

بهذه الأبيات أخذ الشاعر الإنجليزي ويليام ووردزوورث يصف مشاعر الكثيرين ممن عاصروا اندلاع الثورة الفرنسية العظمى. بالفعل، كانت الثورة الفرنسية تمثل فجراً جديداً للإنسانية، وهي واحدة من أهم الأحداث التي شكلت العالم الحديث، فقد نجحت في أن تخلق مجتمعاً جديداً مختلفاً جذرياً.

في أواخر القرن الثامن عشر كان المجتمع الفرنسي مجتمعاً إقطاعياً، يحكم الملك فيه بـ(الحق الإلهي)، وتتحكم كل من الكنيسة والطبقة الأرستقراطية في الأرض، ويسيطرون بقبضة من حديد على الفلاحين الذين ينتجون معظم الثروة.

ولكن كانت هناك طبقة آخذة في التنامي وهي البرجوازية التي استطاعت تكوين ثروة من خلال العمل بالتجارة، وأعمال المحاسبة، والأعمال المصرفية. ولكن البنية الهرميّة القوية للمجتمع الإقطاعي أبعدتهم عن السلطة السياسية، وحالت دون تطور الصناعة على نطاق واسع، مما أدى بهم إلى وضع لا يؤهلهم للمنافسة مع نظرائهم عبر القناة.

وكما وصفها ماركس في البيان الشيوعي: (لم تعد العلاقات الإقطاعية تتلاءم مع القوى المنتجة في تمام نموها. فكانت تعيق الإنتاج بدلاً من دفعه للتقدم، ولذا تحولت إلى قيد كان لابد من تحطيمه.. وقد حُطم).

ولطالما كان هذا التحليل الطبقي محل نقاش تاريخي شرس، إذ يرى مؤرخو اليمين أنه لم يكن هناك صراع طبقي جدي بين الطبقة الأرستقراطية والطبقة البرجوازية، وإنما هو بالأحرى كان مجرد نزاع على السلطة السياسية خرج عن السيطرة فيما بين النخبة الحاكمة. ربما لو أنهم جميعاً قد تحلّوا بقدر قليل من الهدوء والعقلانية، لكان من الممكن أن يحدث انتقال تدريجي من الإقطاع إلى الرأسمالية، وتجنب كل هذه الفوضى التي أحدثتها الثورة.

لذلك فإن هؤلاء المؤرخين، بسبب تعصبهم المحموم ورغبتهم في التشكيك في فكرة أن الثورة ضرورية لإحداث تحولات جوهرية في المجتمع، يستهينون ويحطون من قدر الصراع القوي الدائر بين المصالح الموجودة آنذاك. وعلى الرغم من الثروة التي سمحت لهم بالاندماج الجزئي داخل النظام القديم، إلا أن البرجوازية كانت مضطهدة ومكبوتة في ظل البنية الاجتماعية القائمة. لذلك، كان من المستحيل دون ثورة أن تصبح هي الطبقة المهيمنة.

قادت البرجوازية الثورة، لكنها كانت مدفوعة من أسفل، بشكل جزئي من الفلاحين في المناطق الريفية، ولكن بشكل أساسي من جموع الفقراء في المدن الذين تدخلوا في اللحظات الحاسمة لدفع الثورة إلى الأمام وإنقاذها من الهزيمة على يد قوى الثورة المضادة.

حتى ذلك الحين لم تكن الصناعة منتشرة على نطاق واسع، وبالتالي لم تكن هناك طبقة عاملة بالمعنى الحديث. وكانت الجموع الجماهيرية في الحضر تتألف من الحرفيين، والعمال المهرة، وأصحاب المتاجر الصغيرة، وخدم المنازل وما شابه. وجنباً إلى جنب مع الفلاحين، شكلوا حركة شعبية قوية، رغم كونها غير مكتملة وغير منجزة حتى ذلك الحين.

وكأقلية، كانت البرجوازية بحاجة إلى السلطة الاجتماعية للجماهير، تلك التي وصفها إنجلز بأنها (نواة طبقة اجتماعية جديدة، لكنها غير قادرة حتى الآن على ممارسة العمل السياسي المستقل). ولكسب التأييد الجماهيري، كان على الرأسماليين إقناعهم بإمكانية تحقيق عالم أفضل جديد.

وقدمت أفكار التنوير الإلهام اللازم. ففي القرن الثامن عشر ظهرت في فرنسا مجموعة من العلماء والفلاسفة الذين تحدَّوا الفكر السائد، وواجهوا الخرافات الدينية بالاحتكام للعقل والطبيعة. وظهرت خلاصة أفكارهم في شعارات الثورة الفرنسية: (الحرية، الإخاء، المساواة). وبالنسبة للجماهير الفرنسية المضطهدة الفقيرة، كانت تلك أفكار تستحق القتال من أجلها. ولكن، كما اكتشفوا فيما بعد، هذه الكلمات النبيلة تطبق فقط على الرأسماليين – أسيادهم الجدد.

بحلول عام 1789 أصبح النظام الإقطاعي في أزمة، وكان الركود قد ضرب الاقتصاد لعدة سنوات، وغرق النظام الملكي في الديون، وتسببت المجاعات المتكررة في أوضاع جماهيرية بائسة ومأساوية. أصبح النظام القديم عاجزاً عن إدارة المجتمع، فضلاً عن المضي به قدماً.

أدى الصراع بين النظام الملكي والطبقة الأرستقراطية إلى انحياز الملك للبرجوازية ودعمها، كما أنه أمر باستدعاء محدود للبرلمان، مما أيقظ آمالاً كبيرة في حدوث تغيير جذري حقيقي، رغم أن المعتدلين المهيمنين على البرجوازية في هذه المرحلة كانوا سعداء بالتوصل إلى حل وسط مع النظام القديم. لكن رجال الدين والطبقة الأرستقراطية كانوا عاقدي العزم ومصممين على التمسك بالسلطة وبكل امتيازاتها، لذا كانت المواجهة أمراً حتمياً.

 

نقلاً عن مركز أبحاث الماركسية واليسار

العدد 1107 - 22/5/2024