لماذا كان ماركس محقاً؟!

كان ماركس نفسه، كما سنرى، ناقداً شديداً للعقائد الجامدة والإرهاب العسكري والقمع السياسي وممارسة السلطة الحكومية التعسفية. كان النواب، وفق رأيه، مسؤولين تجاه ناخبيهم، وشنّع على الاشتراكيين الألمان

المعاصرين موقفهم السياسي الجامد. طالب بحرية التعبير وحقوق المواطنة وفزع من خلق بروليتاريا مدن بالإجبار.. وكان في ذلك يفكّر بإنكلترا وليس بروسيا، كما رأى أن أساس الملكية العامة في الريف يجب أن يكون اختيارياً، وليس إجبارياً. لكن، ومع العلم بأن الاشتراكية لا يمكنها أن تنجح في ظروف الفقر، كان يعلم علم اليقين لماذا كان على الثورة الروسية أن تفشل في نهاية المطاف.

تشهد الستالينيّة، من منطقٍ متناقضٍ جداً، على صحّة الماركسية بدلاً من أن تشوّه سمعتها. إذا كنت تبحث عن تفسير مقنعٍ للستالينية، عليك أن ترجع إلى الماركسية. لا يكفي مجرّد الاستياء الأخلاقي. يجب أن نعلم في أية شروط نشأت الستالينية وكيف عملت وأين فشلت؟ والأرجح أن نكتسب هذه المعلومات من بعض الأفكار الماركسية الأساسية. يختلف الماركسيون الذين يعتمدون على هذه الأفكار، والكثيرُ منهم من مؤيّدي ليو تروتسكي وغيره من الاشتراكيين (الليبراليين)، عن الليبراليين الغربيين في ناحية حاسمة: كان نقدهم الموجه إلى ما يسمى المجتمعات الشيوعية أعمق بكثير. فلم يكتفوا بطلب المزيد من الديمقراطية والحقوق المدنية، بل طالبوا بإلغاء نظام القمع كلِّه وذلك بشكل صريح باسم الاشتراكية . قالوا بهذه المطالب منذ اليوم الأول الذي استلم فيه ستالين السلطة. في ذلك الوقت حذّروا من انهيار النظام الشيوعي وأنه سيصبح فريسة سهلة للرأسمالية النصّابة التي تنتظر بنهمٍ أن تبتلع البقايا. إن نهاية الاتحاد السوفياتي هذه هي بالضبط ما تنبّأ به تروتسكي. وقبل ما يقارب عشرين سنة تحقق ذلك.

تصوّروا أن منظمة رأسمالية (شاذّة بعض الشيء) تريد تحويل قبيلة، لم تدخل بعد عصر الحداثة، إلى مجموعة متعهدين طمّاعين بالأرباح ومجهَّزين بأحدث التقنيات ويجيدون لغة الدعاية والسوق الحرّة وكل ذلك في وقت قصير لا يصدّق. هل يكفي، أنَّ هذه التجربة محكو م عليها بالفشل باحتمال كبير، لنقض الرأسمالية بشكل مقتع؟ بالتأكيد لا. سيكون هذا الرأي غير معقول تماماً مثل طلب إلغاء منظمة كشّافة البنات لعدم فهمهن بعض المسائل المعقدة في فيزياء الكمّ . لا يرى الماركسيون أن الإرث الليبرالي المتميز الذي تركه رجال من أمثال (توماس جفرسون  Thomas Jefferson وجون ستيوارت ملل (John Stuart Mill) سيُلغى بسبب تعذيب مسلمين في سجون ال سي آي إيهCIA ) ) السرية، حتى وان أصبحت هذه السجون جزءاً لا يتجزأ من سياسة المجتمعات الليبرالية المعاصرة. أما ناقدو الماركسية فنادراً ما يعترفون بأن المحاكمات الصورية وإرهاب الجماهير لا يمكنها تفنيد الماركسية.

بيد أن هناك سبباً آخر للظنّ بعدم إمكانية تحقيق الاشتراكية، حتى ولو نجح تأسيسها في شروط مناسبة.

فالسؤال هنا هو: كيف يمكن أن يعمل اقتصاد وطني حديث ومركّب، دون أسواق؟ يرى عدد متزايد من الماركسيين اليوم أن هذا السؤال غير ضروري إطلاقاً. فبرأيهم ستبقى الأسواق جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني الاشتراكي. وتصمِّم ما يسمى (اشتراكيةُ السوق) مستقبلاً تكون وسائلُ الإنتاج فيه ملك المجتمع، بينما تتنافس المؤسسات التعاونية المستقلة في السوق. وبهذه الطريقة يمكن الاحتفاظ ببعض محاسن السوق وتفادي بعض سيئاتها. كما يمكن أن يُسفر التعاون على مستوى المؤسسات الفردية عن فعالية متزايدة، إذ إن كل المعطيات تدل على أنها فعالة دائماً تقريباً كالنظام الرأسمالي، وفي بعض الأحيان بما يفوقه، إذ تُزيل المنافسةُ على صعيد إجمالي الاقتصاد المشكلات التي ظهرت في النموذج الستاليني التقليدي للاقتصاد المخطَّط، وذلك بسبب تبادل المعلومات والتوزيع والتشجيع.

كان ماركس ذاتُه، برأي بعض الاشتراكيين، مؤيداً لاشتراكية السوق، لأنه اعتقد بأن السوق ستبقى موجودة في الفترة الانتقالية بعد الثورة الاشتراكية، على الأقلّ. علاوة على ذلك، عزا إلى الأسواق أن ليس لها دور استغلالي فحسب، بل دور تحريري أيضاً، فهي التي ساعدت الناس على التحرّر من التبعية السابقة للأرباب وأصحاب الأراضي، وهي أيضاً التي تسلب العلاقات الاجتماعية الهالة التي تحيط بها وتكشف عن حقيقتها السوداء. علّق ماركس على هذه النقطة أهمية كبيرة، حتى أن الفيلسوفة هناء آرندت Hannah Arendt  قالت عن الأسطر الأولى من البيان الشيوعي بأنها (أكبر تمجيد للرأسمالية رأيته في حياتي).

علاوة على ذلك، ليست الأسواق خاصة بالرأسمالية، كما يقول اشتراكيّو السوق. حتى تروتسكي وافق وهذا – ما قد يفاجئ بعض أنصاره، على السوق، ولكن في المرحلة الانتقالية إلى الاشتراكية فقط، وإضافة إلى – التخطيط الاقتصادي. فالسوق ضرورية، برأيه، لمراقبة تناسب التخطيط وعقلانيته، لأن (مراقبة الاقتصاد دون علاقات بين الأسواق غير معقولة). وتضامناً مع المعارضة اليسارية السوفييتية، كان تروتسكي خصماً صريحاً للاقتصاد الخاضع لأوامر.

تُلغي اشتراكية السوق الملكية الخاصة والطبقات الاجتماعية والاستغلال. وهي تمنح، إضافة إلى ذلك، السلطة الاقتصادية للمنتجين الحقيقيين. ولهذه النواحي، تُعتبر تقدّماً مستحسناً بالقياس مع نظام الاقتصاد الرأسمالي. أما بالنسبة لبعض الماركسيين، فلا تزال اشتراكية السوق تحتوي على الكثير من خصائص النظام الرأسمالي حتى يتعاطفوا معها، لأنهم يرون أن إنتاج البضائع وعدم المساواة والبطالة ولعبة قوى السوق الحرة التي لا يمكن لإنسان أن يراقبها، ستستمر في ظل اشتراكية السوق. ويتساءلون: كيف لا يتحوّل العمال، في هذه الحالة، وبكل بساطة إلى جماعة من الرأسماليين الذين لا يهمهم سوى زيادة الأرباح مع تراجع النوعية وتجاهل الاحتياجات الاجتماعية، إضافة إلى أنهم سيشجعون على ثقافة الاستهلاك بسبب حرصهم على زيادة أرباحهم وتراكمها؟ كيف إذاً نتحاشى محاذير نَفَس الأسواق القصير والمُزمن وعادتها على عدم مراعاة النواحي الاجتماعية الإجمالية؟ وكيف نتحاشى النتائج غير الاجتماعية لقراراتها السريعة والمجتزأة على المدى الطويل؟

قد يقلّل التعليم ومراقبة الدولة من هذه الأخطار، ولكن بعض الماركسيين سيفضل نظاماً اقتصادياً ليس مخططاً مركزياً ولا خاضعاً للسوق. ووفقاً لهذا النموذج، يجب إجراء مفاوضات بين المنتجين والمستهلكين وحماة البيئة وجماعات معينة أخرى لأخذ القرار المتعلّق بتوزيع الموارد الذي تُنظَّمه شبكة من مجالس إدارة المعامل والمناطق السكنية ومنظمات المستهلكين. وستحدَّد عواملُ الاقتصاد العامة عن طريق قرارات متعلّقة بتوزيع الموارد ونسبة التنمية والاستثمارات والطاقة وشؤون المواصلات والنقل وسياسة البيئة وغيرها في اجتماعاتٍ على المستوى المحلي والمناطقي والوطني. وسوف تفوِّض الهيئاتُ العليا الجهات الإقليمية والمحلية التابعة لها بأخذ القرارات في توزيع الموارد والتخطيط التفصيلي.

وعند كل مرتبة، تكون المناقشات العامة حول الخطط الاقتصادية والإجراءات ذات أهمية حاسمة. وبهذه الطريقة قد تحدِّد الفائدةُ الاجتماعية، وليس الفائدة الخاصة، ماذا سنُنتج وكيف. أما في الظروف الرأسمالية، فإننا لا نشارك في اتّخاذ القرار فيما إذا أردنا بناء المزيد من المشافي أو إنتاج الكورن فليكسcorn flakes  أما في الظروف الاشتراكية، فسوف تكون لنا دائما حرّيةُ أخذ القرار.

 

تأليف تيري إيفلتون

العدد 1107 - 22/5/2024