خفّف الوطء.. فأنت في حلب!

أتعرفون حلب؟!

أتعرفون أعتق جدة في التاريخ؟!

أتعرفون مدينة توجت رأسها باثني عشر ألفاً من السنين، عدا الشيب الجليل.. ومازالت كل سنة تضيف إلى جواهرها جوهرة جديدة؟

أتعرفون مدينة الأحجار الصلبة الملونة البهية النقوش؟

أتعرفون المدينة التي يسكنها النحل الدؤوب؟

أتعرفون المدينة التي ألوان عسلها بعدد أصناف الزهور؟

إن ظننتم أنها تلك البقعة الجغرافية المأهولة في  القسم الشمالي من سورية الحبيبة فقط، فدعوني آخذ بيدكم وفكركم وقلبكم إلى أكثر مدن الكون فرادة، ولنتوضأ ولنصلِّ لله ركعتين، ولنزر معاً الأرض التي اغتسلت بالدم وتعمدت به، ولكنها لم تنس التاريخ.

أن تجد كياناً عمرانياً معمراً وليس عجوزاً، فأنت في حلب الصبا والعراقة.. في حلب راكم التاريخ ست حضارات متتالية بموروثها الإنساني، وعندما رضي عن عمله توّج رأس المدينة الملكة بالقلعة الشامخة.

في حلب يسفر لك التاريخ عن وجهه مع تراتيل الفجر، ونشيج الغيوم عند الغروب على سطح كل حجر عتيق.. أفديك بلاداً صنعت كل التاريخ!

في حلب تعلمك الآثار كيف تفك حروف الأبجدية، وتقص عليك أوجاع الحكايا قبل النوم، وتجر قدميك إلى طريق  الأجداد.

في حارات حلب القديمة تصادف شيباً يسيرون في الطرقات، فتظنهم من بقايا الصحابة.

في حلب لا يتوه الزائر إن كان قلبه هادياً، لأن التراب الذي يعرف موطنه يعطيه مفتاح الدروب.

في حلب لا يذهب الإمام إلى صلاة الفجر قبل أن يصطحب معه الملائكة إلى جولة في الحارات العتيقة الدهرية، ليرسخ بالصحبة إيمانه.. يسري كملاك أبيض بخطا لا صوت لها على ضوء قناديل خافتة تحرق آخر زيتها لتضيء حارة ضيقة تحدّها من الجانبين جدران حجرية متقاربة، تلوح على سطوحها بين المدى والآخر فتحات مقنطرة ذات أبواب خشبية مشققة حائلة اللون أكلها المطر، تظللها سماء تبرعمت فيها أنوار الفجر نعياً لليل.

في حلب يجاور السكان مقامات الأولياء استئناساً بالأذكار..

في أسواق حلب القديمة عجائز يجلسون على بساط شرقي قديم، أمام فتحات دكاكينهم، وتحار! أهم جلسوا بعد انتهاء البناء، أم استقروا منذ زمن قديم في أماكنهم، وتركوا للآخرين أن يبنوا ما يحيط بهم، وتحار ثانية.. أيهما الأعتق: العجائز أم الدكاكين؟!

في حلب.. يبدع العمال في تطريز الحجارة كما تبدع الجدات في تطريز أثواب الأحفاد.

في بيوت حلب القديمة، تبنى طاقات حجرية لسكن الحمام في عب جدران البيوت القديمة، تدخلها الطيور قبل غروب الشمس.

في حلب.. يأكل حمام الدار على مائدة أهل الدار، ويرفع منقاره نحو السماء في صلاة شكر.

في حلب.. لا تنهار جدران البيوت العتيقة، لأن كل جدار مستند إلى جاره.

في حلب.. لا يجوع إنسان ولا طير.

في حلب.. تصلي الجدران مع البشر تراتيل أزلية.

في حلب.. تتكسر الصخور من برودة الشتاء، ولا ينكسر الإنسان.

في حلب.. تحتضن السفوح والجبال ملايين كثيرة من أشجار الزيتون، أكثر بقليل من عدد سكان سورية احتياطاً للأجيال.

في حلب.. يستعرض قوس قزح ألوانه فوق أزهار الربيع، ثم يتلاشى خجلاً من هزيمته.

في حلب.. تنتصب الأشجار الربيعية المزهرة كخدود الصبايا حراساً ترافق مسير أهل البلد أينما اتجهوا، وأحياناً توصلهم إلى أبواب بيوتهم تطوعاً ومؤانسة.

في حلب.. تزهو مساحات العشب على السجاد اليدوي، فتفوقه جمالاً.

في حلب.. لا تنمو شقائق النعمان فرادى، تتجمع حقولاً داسّة رؤوسها في أكتاف بعضها بألفة أهل البلد.

في حلب.. تترك زكاة الطيور على البيادر.

في حلب.. يأكل الناس طعامهم بمزاج وشهية من يأكل الوجبة الأخيرة، كل وجبة وكل يوم.

في حلب.. يجمع الورد الجوري في الربيع، ويفرد على أرصفة الشوارع أكواماً تعطر الأجواء، وتصنع منه أكثر المربيات فرادة في العالم.

في حلب.. يصنع الزعتر البلدي في أقدم حارات العالم، ويصدّر إلى أحدث الدول في أقاصي المعمورة، زوادة من عبق الزهور.

في حلب.. ينتشر شذا القهوة المضمخة بالمسك في الأجواء، ليكون أول ما يستيقظ عليه الناس، وآخر ما يستنشقون قبل النوم.

في حلب.. يبيعك التاجر العجوز كماً من الحكايا وذكرى الأصحاب وتاريخ الأزقة القديمة، يضيفه مجاناً إلى حساب الجبن والسمن وزيت الزيتون.

في حلب.. قد يتصاعد الشجار لسبب ما وتعلو الأصوات وتتوهج العيون، كل هذا تطفئه وساطة خيّرة، وقبلة شوارب، وصافي يا لبن.

في حلب.. لا تفكر كثيراً بتناول الطعام في بيتك عند القيام بالزيارات، فغالباً ما تبسط الموائد بعد ارتشاف القهوة، وتطول السهرة بدعوى أن الجلوس على الموائد لا يحسب زمنياً من أعمار البشر.

قالت حكمة الشرق: ويل لأمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع..

قال حلب: الويل لغيرنا، لأن سهولنا المحيطة بمدينة حلب كأسوارة خضراء تموج بالسنابل المباركة، وتزدهي بالأقطان البيضاء، وتنتصب شجيرات الخضار المنوعة على أكتاف سواقيها، وتنتشر أشجار الفواكه في بساتينها وحدائقها.. ولكن أي ويل ساق إلينا (من لا يخاف الله ولا يرجو عفوه) – اقتباس شعبي!

داهمتنا من بلاد غريبة، بعيدة عنا أو قريبة منا، جحافل بشرية ليس لها فكرنا أو طباعنا أو انتماؤنا، هياكل مأجورة تسوقها قوى شريرة، يقودها المال، سيفها يسبق لسانها، عاثت في ريفنا فساداً وإفساداً.. تألمت السنابل وأحنت رأسها إلى الأرض، واسود الذهب الأبيض، وطمرت الخضار نفسها في التراب، وتوقفت الفواكه عن النمو، وجاع الناس.

إذاً.. الويل ليس لنا، إنما كل الويل لهم!

قديماً كانت الملوك والأمراء والقادة تستحضر من مدينة حلب أفخر الأقمشة وأفخم الملابس، وكما توارث الأنبياء تاريخياً مهنة الرعي ليتدربوا على سياسة الأمم، توارث صناعيو مدينة حلب صناعة النسيج منذ غزل أول خيط حرير، ليكونوا دائماً طليعة هذه الصناعة إتقاناً وأناقة وجمالاً.. فيما بعد تسايرت معها صناعات كثيرة ومتنوعة، قديمة وحديثة.. نحن صنّعنا وكفينا أنفسنا وصدّرنا وتطورنا، وانتعش اقتصادنا إلى أن دخل الغزاة المنطقة الصناعية العامرة، وخرجوا من الطرف الآخر، تاركين وراءهم أرضاً يباباً مسروقة محروقة.

إذاً.. الويل ليس لنا.. إنما الويل كله لهم.

أيها الغرباء.. أنتم ما سمعتم يوماً ولا عرفتم يوماً أن مدينة حلب كانت الثغر الشمالي الحامي لسورية من الغزاة؟

أنتم ما سمعتم يوماً، ولا عرفتم يوماً أن ملكها سيف الدولة الحمداني قارع الروم وكانت المعارك بينهما سجالاً؟

أنتم ما سمعتم يوماً ولا عرفتم يوماً أن أب الطيب المتنبي ما جاء بأجمل الأشعار إلا في حلب؟

أنتم ما سمعتم يوماً ولا عرفتم يوماً ماذا قال المتنبي في أبي فراس الحمداني:

لقد سلّ سيف الدولة المجدُ مَعلماً

فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه

تحاربه الأعداءُ وهي عبيده

وتدخرُ الأموال وهي غنائمه

أبعد كل هذا الزمن يبقى شعرك فتياً يا أبا الطيب؟ يذكّرنا بأمجادنا، ويستنهض فينا الهمم، ويحرضنا على أن نستعرض غزو الروم والتتر والصليبيين.. كلهم مضوا.. وبقيت حلب.

يا ضيوف حلب.. ادخلوا حلب بسلام آمنين..

ادخلوها من أبوابها التسعة العتيقة، باب الجنان، وباب قنّسرين، وباب المقام، وباب الفجر، وباب النصر، وباب الحديد، وباب أنطاكية، وباب النيرب، وباب الأحمر.. تلكم أبواب الماضي وبوابات التاريخ.

أبواب المستقبل الجديدة سنفتحها على الجهات الأربع، وسنسميها  باب الأمان، وباب السلام، وباب الكرامة، وباب التحرير.

يا ضيوف حلب.. حللتم أهلاً، ونزلتم سهلاً، إن كنتم زواراً، ولكن لا مكان في حلب إلا لمن تزود بالمحبة والسلام.

حلب لا تشرع أبوابها، ولا تبسط سهولها، ولا تقدم خبزها، ولا تفصح عن تاريخها، ولا تسمع أدعية أوليائها وأذكارهم، ولا أذان جوامعها، ولا أجراس كنائسها، ولا تفتح باب قلعتها، ولا تقدم حريرها، ولا تهزج بأغانيها وأشعارها، ولا تزين ساحاتها لمن جاء يحمل معول الهدم يقوض به العمران والتاريخ، أو لمن توزد بالبارود ليحرق، أو لمن حمل السيف ليروّع ويذبح، ولا لمن جاء بالأسود عوضاً عن الأبيض، ولا لمن أراد لمروجنا أن تُصبغ بالدم، ولا لمن ارتهن أرضنا وإنساننا، ولا لمن سرق قمحنا وقهر شيوخنا وأفزع أطفالنا.. تلكم هي حلب بروحها وريحانها..

هل تلمستم كم هي ثمينة وأصيلة وقديمة وجديدة؟

تلكم هي حلب بروحها وريحانها، غلفوها بالحرير الذي امتدت خيوطه على طول طريق الحرير.

تلكم هي حلب بروحها وريحانها، ضمخوها بماء الزهر، وضعوا في طيات أيامها صابون الغار البلدي المعطر، لتعرفوا دائماً أنها حلب، كما كانت، وستبقى دائماً، ملكة متوجة بقلعة.

سبق لملوك حلب أن افتدوا شعراءهم حين أُسروا، فما بالكم بالملوك إذا خطفوا؟ تلكم هي حلب المخطوفة تستشرف طلائع الفداء لتعيد إليها العرش والتاج.

العدد 1105 - 01/5/2024