نوبة الوحشية النيوليبرالية والأزمة السورية في السياق (2)

 للنظام العالمي الجديد أهدافه التي وردت في العديد من المراجع ومن أكثرها دقة ووضوحاً ما جاء في كتاب (العولمة والعلاقات الدولية) للأمين العام للحزب الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف، وهنا تلخيص لأهم تلك الأهداف:

*بناء عالم مثبت قانونياً على شكل هرم من التبعيات تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على قمته وتخضع المنظومة المالية العالمية لإرادتها.

* إلحاق هزيمة عسكرية بالبلدان التي تحاول الدفاع عن مصالحها والاقتصاص من القادة الذين يقاومون هيمنتها.

* الرقابة على الإعلام وفرض منظومة قيم قمة الهرم على العالم، وقمع أصحاب الرأي الآخر واعتبارهم إرهابيين.

* إطلاق دوامة الإرهاب لخلق جو من الخوف واليأس وسلب قدرة الشعوب على النضال في سبيل حقوقها.

وتظهر هذه الأهداف وحشية النظام العالمي واستبداديته واجرامه واستهتاره بالبشرية وبالقانون الدولي وحقوق الدول، كما تظهر التطابق بينها وبين ما جرى من احداث في العالم وفي محيطنا الإقليمي وفي سورية تحديداً، فكتاب زوغانوف كان قد صدر باللغة الروسية في وقت مبكر في موسكوعام 2001.وكان حراس الرأس مال وراء كل تلك الوحشية، كما كانوا وراء انهيار المنظومة الاشتراكية الذي فتح امامهم بوابات الهيمنة على العالم اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، وتجلت الهيمنة الاقتصادية في سياسات التكييف التي فرضها صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية عن طريق إقراض الدول التي كانت منضوية داخل المنظومة الاشتراكية ومعها الدول النامية بهدف هيكلة اقتصاداتها لخدمة اقتصاد السوق الحر في عملية تحت اسم (توافق واشنطن ).

لكن فشل النظريات اللبرالية الجديدة كما سابقاتها وانكشاف عجزها عن وقف انهيار الأهرامات المالية قد هيأ الفرصة للتبعات العسكرية والحروب المخططة مسبقاً، وسرّع حصولها وفرض إيقاعها على كل دول العالم الذي تحول إلى شمال غني وجنوب فقير- يذكر أن تقرير الأمم المتحدة عام 1992 تحدث عن دخل الفرد في الشمال وقدره 17000 دولار سنويً، مقابل دخل الفرد في البلدان النامية الذي لا يتجاوز 340 دولاراً سنوياً، وهذا الواقع يستحيل استثناء سورية من سياقه، خاصة أنها النظام الوحيد في المنطقة الباقي مدافعاً عن استقلالية قراره الوطني ومتمسكاً بالخيار السياسي الممانع للعولمة في محيط معولم بالكامل وغارق في تبعيته لواشنطن.

فقد أربك انهيار الكتلة الشرقية الاقتصاد السوري ووضعه أمام تحدي الوجود في ذلك العالم الذي يزداد شراسة باضطراد، وفي ظل غياب تخطيط مستقبلي مضافاً إليه فساد متفشٍّ في أجهزة الدولة وتحولات سيكولوجية في بنية التركيبة الحزبية (منطق تطور أحزاب الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة من حامل لقضية جماهير العمال والفلاحين إلى هواجس تتناقض مع مصالح تلك الجماهير) كل تلك العوامل تضافرت معاً وأدت إلى دخول سورية ضمن توافق واشنطن بتحفظ، ومع ذلك شهدت البلاد فوارق طبقية هائلة إثر ذلك الدخول، فالتكيّف الهيكلي مع اقتصاد السوق الحر الذي سوقته حكومة ناجي عطري تحت غطاء اقتصاد السوق الاجتماعي معتقدة أنها تقايض الموقف السياسي السيادي ببعض التنازلات في المجال الاقتصادي، أخلّ بالاستقرار الاجتماعي للبلاد وهدد أمنها الوطني منذ اللحظات الأولى لتلك المغامرة، وعلى الرغم من التحذيرات المتلاحقة للنواب الشيوعيين وغيرهم في مجلس الشعب، الذين اتُّهموا بالرجعية ومنع تحديث البلاد، مضت الحكومة في إصدار المراسيم والقوانين التي أزالت العوائق أمام سيادة اقتصاد السوق الحر، وضخّمت حجم القطاع الخاص وحررت الاقتصاد والتجارة من سيطرة الدولة وخصخصت مؤسساتها وفتحت فرص الاستثماروخفضت الرسوم الجمركية على الواردات، وأوقفت خطط إصلاح القطاع العام الصناعي، وتركت الفلاحين تحت رحمة التجار والسماسرة.

ومن أخطر تلك الخطوات كان دخول المستثمرين الأجانب إلى إدارة المرافق الحيوية والأمنية العامة كالمرافئ والمطارات وغيرها، وبروز فئات رأسمالية ثرية ورجال أعمال وملاك جدد – هم – وليس الدولة من يستأثر بالنسبة الأكبر من عوائد النمو التي تكدست بأيدي هؤلاء الأفراد القلائل في الوقت الذي بدأ سوء توزيع الدخل الوطني ينتج ملايين من الفقراء والعاطلين (الفقراء 13% من عدد السكان عام 2008 والعاطلون 7,16 % بين الشباب عام 2009 ).مع عجز الميزان التجاري بسبب انخفاض حجم الصادرات النفطية وتراجع إيراداتها ورفع سعار المحروقات بالتوازي مع موجات الغلاء المتلاحقة في وقت معاناة المواطنين وزيادة صعوباتهم المعيشية وتراجع دخولهم.

ربما أغرى المشهد المتغير كثيراً من الناس، إذ كانت ترتفع المولات والفنادق وتتكاثر الكافتريات وسط المدن بديكوراتها المبتكرة والمميزة والاستثمارات الخليجية في المناطق السياحية وتتغير واجهات المحال التجارية التي اكتظت بشتى أنواع السلع المستوردة، كما ازدحمت الشوارع بالسيارات على نحو غير مسبوق، ولكن في المقابل كانت تتكاثر على أطراف المدن أسقف الصفيح وتزداد بيوت الدعارة وأعداد العاطلين عن العمل وجرائم السرقة وأعداد المتسولات والباحثين عن لقمة العيش في حاويات القمامة والعشوائيات وأماكن سكن الفقراء الذين هجروا أريافهم هرباً من جفاف موارد الرزق، وهناك كان الجمر تحت الرماد، وبما أن عولمة القطب الأمريكي الأوحد قد حولت ثقافات الشعوب ومنها العربية إلى ملحق لها ووظفت التراث الغيبي السلفي العربي لصالح تثبيت قيمها ونشرها وخدمة مشاريعها، فان حكومة ناجي عطري قد أمنت من حيث تدري أو لا تدري لتلك العولمة جيشاً من المهمشين الذين لم يعد لديهم دولة ترعاهم داخل البلد.

*****

المراجع: (أي نهج اقتصادي واجتماعي نريد، منشورات الحزب الشيوعي السوري الموحد، ومقالات الباحث بشار المنير، الثقافة والتنمية في زمن العولمة- د رزق الله هيلان، مجلة الطريق العدد 3 مقالات د.مفيد قطيش، د.غسان ديبة، مهند دليقان، العولمة والعلاقات الدولية – غينادي زوغانوف).

العدد 1105 - 01/5/2024