نزار صابور: الإنسان ــ اللوحة..وسعد القاسم: الناقد السلس!

 بإمكان القارئ أن يكتشف في هذا الكتاب مسألة مهمة تتعلق بالتعامل مع الفن التشكيلي، وهي أن هناك لغة سلسة قادرة على النجاح في تقديم تعقيدات المدارس الفنية التشكيلية إلى القارئ بأيسر السبل، فالكتاب يذهب في رحلتين ممتعتين واحدة في السيرة الذاتية للفنان المبدع فعلاً نزار صابور، والثانية في السيرة الذاتية للوحته، فإذا بالسيرتين الذاتيتين تلتقيان على كل صفحة من صفحات الكتاب يجمعهما الإحساس واللون والخط.

لم يكن نزار صابور فناناً تشكيلياً سطحياً يمكن التعامل معه، في كتاب من هذا النوع، باستسهال، فاللوحة عنده (لاتقدم للمشاهد ما يألفه أو يتوقعه، لكنها أيضاً لا تدير ظهرها له. إنها تدعوه للتأمل والتفكير والحوار وللبحث في جوهر الأشياء وتحسُّس القيم الجمالية التي انتقلت جيلاً بعد جيل عبر اللمسات المبدعة لفنانين وحالمين وحرفيين مهرة، صنعت حكايات جلجامش وعنترة والأيقونة والمنمنمة ومقامات الأولياء وأبواب البيوت القديمة).

يحثّنا الكتاب على الاطلاع على تجربة الفنان التشكيلي نزار صابور، فتجربته تغري بالعودة إلى بداياتها، وفي مغامرة الريشة الأولى نذهب معه إلى ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية، لنتعرف منزل أبيه (أبو ناجي) حيث ولد الفنان، لأن حارته كان لها حصة في اللوحات الأولى، وقد رسمها من فوق السطح فغدت لوحة ساحرة، ثم ضاعت إلى أن وجدت معروضة للبيع في سوق الجمعة (سوق الخضار)، فعادت إلى حضن الرسام مطمئنة إلى مستقبلها..

في عام 1976 انتسب نزار صابور إلى كلية الفنون الجميلة، وكان عليه أن يعمل أيضاً في التدريس ليحمل عبئا عن أبيه (أبو ناجي) الذي نتعرف أيضاً على صلابته في كفاحه اليومي مع الحياة، لذلك يهديه نزار صابور واحدة من أهم لوحاته قائلاً: (إلى روح والدي، وفاتح المدرس)، فأي مزاوجة رائعة بين الحياة والفن، الأولى (الحياة) يرتديها أبو ناجي، والثانية (الفن) ويمثلها فاتح المدرس!

يتوقف سعد القاسم عند محطة مهمة عن العلاقة بين الفنان والناس، وكانت عن رغبة نزار صابور مشاركة المشاهدين في تجربته الأولى، وكان ذلك في عام ،1980 عندما أقام مع زملائه معرضاً مفتوحاً على سور الجامعة التي يدرس فيها (أي كلية الفنون) في نهاية شارع بغداد بدمشق.. والأهم هو ملاحظة فاتح المدرس تأثّر الطلاب بأستاذهم نزار الصابور عندما نضجت تجربته، فرد عليه نزار قائلاً: هذا الشيء السوري الذي عملته أستاذ فاتح في نهاية الخمسينيات، فوصلني في نهاية السبعينيات وأوصلته إلى طلابي في نهاية التسعينيات!

أي أن نزار الصابور، ينتمي إلى عظمة العطاء الفني عند فاتح المدرس، وفي عظمة العطاء يأخذ مشروع التخرج الذي قدمه في نهاية مرحلته الجامعية الأولى (أي لوحة جلجامش) المرتبة الأعلى، وكانت تكشف عن المستوى المتقدم الذي بلغته تجربته على مستوى الشكل واللون.. يذهب نزار صابور إلى موسكو ليتابع دراسته العليا، فإذا بروسيا (تتيح للفنان المحمّل بألوان الشرق وعوالمه السحرية معرفة الامتداد الرحب لهذا الشرق وغنى عوالمه وتنوعها).

وهناك كان حاضراً بتميّزه، وكان حاضراً بتعامله مع الفن الراقي في الحياة الروسية..لذلك أنتج لوحات هامة، وترك لوحة (مدينة القمر) الشهيرة في المعرض العالمي لفناني الدول الاشتراكية الشباب.. في كتاب (نزار صابور: الإنسان – اللوحة) يجمع الناقد التشكيلي سعد القاسم كل الآراء التي كتبت عن أعماله، فإذا نحن نتعرف على أكثر من زاوية للرؤية يمكن النظر فيها إلى لوحاته، نتعرف على نزار صابور من وجهة نظر النقاد وزملائه الفنانين والصحفيين والتلفزيونيين وحتى الشعراء.

وفي واحد من تلك الآراء نقرأ للشاعر نزيه أبو عفش شيئاً مثيراً عن لوحات نزار صابور: (هو ذا شاعر جديد يلتحق بالموكب، شاعر لون ورهافة أحلام، شاعر حقيقي يعيد بناء عالمه بشغف نبي أو عاشق أو ساحر أسطورة..)..

بين رحلة الفنان المبدع من بيته إلى مدرسته إلى جامعته، ومن ثم في جامعته (التي احتضنت فنه) يترامى اسم نزار صابور، إلى أبعد من جدران سور كلية الفنون الجميلة، فإذا هو يشد الرحال مع لوحاته إلى كل الاتجاهات والأمكنة في العالم، فتسافر لوحاته إلى لبنان والأردن ومصر والبحرين والإمارات والسعودية وتونس وروسيا وأمريكا وفرنسا وسويسرا وألمانيا وايطاليا.. إلخ.. وصار بإمكان الأمريكي أن يشاهد شيئاً من أعمال نزار صابور في صالة أوسكار في واشنطن..

في حوار معه استعاد صديق القول الشهير لجان كوكتو عن القلق الذي يجب أن يكون وسادة الفنان، فعقّب نزار صابور قائلاً: أؤمن أن الفنان هو من يصنع القلق.

صانع قلق إذا؟

نعم، هكذا هو نزار صابور في واقع الحال!

العدد 1104 - 24/4/2024