مسألة المواطنة وأبعادها في الدولة العربية المعاصرة (1)

هناك عبارة شائعة في علم السياسة، مفادها أنه لكي تكون قارئاً سياسياً جيداً،عليك  أن تكون أولاً قارئاً تاريخياً جيداً، وهي مقولة تصدق إلى حد كبير على دراسة واقع المجتمع والدولة في الوطن العربي المعاصر.

فمن غير الحكمة والموضوعية أن نتجاهل-ونحن ندرس الإشكاليات المجتمعية العربية الراهنة-تاريخاً طويلاً من (الفتن) والاضطرابات و(المنازعات) الأهلية والداخلية، قبل أن تتدخل القوى الاستعمارية أو المخابرات الأجنبية لتؤججها أو لتستغلها أو حتى لتختلقها بأساليب وألاعيب وحيل مختلفة، في العصر الحديث.

إن العودة إلى (جذور) النزاعات الأهلية العربية وتاريخها، لا تمثل اهتماماً بحثياً أكاديمياً منفصلاً عن الواقع العربي المعاصر، لأن هذه الصراعات و(الفتن) والنزاعات، كما أثبتت تجارب البلدان العربية في العقود الأخيرة،مازالت (تعيد إنتاج) ذاتها بأشكال وتجليات مختلفة، وأحياناً بأشكال متماثلة متكررة، سواء في الصراع على الصعيد القومي أو في الصراع مادون القطري وما دون الوطني، الذي أصبح اليوم سمة المرحلة الراهنة بين القبائل (1)والطوائف والمذاهب، سواء عند انحسار السلطة المركزية أو تحللها،أو ضعفها، أو عندما تسنح لها الفرصة بالانبعاث والنهوض في إطار التجربة التعددية الديمقراطية الفتية في بعض الدول العربية، بحيث صار الخطر على التوجهات والتحولات الديمقراطية في تلك الدول منبثقاً من مثل هذه التنافرات الأهلية المتفلتة والمتنامية نحو التنازع والتصادم، إضافة إلى  ما هو آت من ممارسات الأنظمة والحكومات القائمة، بل إن تلك الجماعات والتجمعات والتكوينات (الإثنية واالطائفية والمذهبية والعشائرية..إلخ)ذات التوجهات الرجعية و الظلامية والطائفية والمذهبية، صارت تشكل المسوغ والحجة للسلطات الحكومية، لقطع الطريق على النمو الديمقراطي المنشود في الوطن العربي.

إننا نعتقد بأن الوقت قد حان لتسليط الضوء بعمق وشمولية وموضوعية علمية، على عوامل الانسداد الخطير، الذي وصل إليه النظام الاجتماعي-السياسي في المجتمع العربي المعاصر. وهو انسداد يعبر عن نفسه بأشكال وتجليات يومية واسعة ومتداخلة ومتشابكة، وخطيرة في بعض الأحيان (كالقتل على أساس الهوية الطائفية أو المذهبية)، والإعلان عن وجودها ونزعاتها الاستئصالية والإقصائية للأطراف الأخرى، دون خجل أو تمويه.فأصبح السكوت عن هذه النزعات الانتحارية التدميرية أو التستر عليها-تحت أي شعار ولأي اعتبار- يشكل هرباً من مواجهة الواقع، وعجزاً فكرياً وعملياً عن التعاطي مع معطياته، إن لم نقل تواطؤاً ضمنياً مع هذه التكوينات والاتجاهات التفتيتية والتدميرية.

ومن نافل القول أن غياب روح المواطنة وضعف وعي المجتمع بهذه المسألة الأساسية، يحوله إلى مجرد ساحة لمجموعات وتكوينات قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية وأقوامية متنافرة، سرعان ما تتصادم مع بعضها في أول امتحان وطني، ما يهدد وجود الكيان السياسي_الاجتماعي القائم برمته.

وفي سعينا إلى التفكير في هذه الإشكالية،نجد أنفسنا، ابتداءً أمام واقع معقد هو أقرب إلى الجدار أو (الباب المسحور) في قصص الأساطير، وهو ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بـ (الانسداد المجتمعي)، الذي يقتضي تحليلاً معرفياً-نقدياً للبنى العصبوية المترسبة والمنبعثة، سواء كانت هذه البنى محكومة أو حاكمة، رسمية أو شعبية، في الحكم أو في المعارضة.

ونحن في هذا السياق نتفق تماماً مع التوجه الفكري القائل بضرورة تجاوز الخطاب السائد والمبني على عقلية (هجاء) السلطات و(مدح) المعارضات أياً كانت درجة تخلفها  و ظلاميتها (أو العكس)، وأن يحل محل ذلك خطاب علمي ونقدي منسجم مع ذاته يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية على امتداد الخريطة المجتمعية- السياسية، في قمة الهرم السياسي أو في قاعدته على السواء، إذا كنا لانريد أن نفاجأ بعد الآن بأنظمة (شعبية) تعيد الشعب إلى سجون حكامه السابقين، بسطوة أشد بطشاً، وتخلفاً، وبأيديولوجيا أكثر قسوة وبدائية (وثمة في صفوف (المعارضات) العربية نظائر عربية كثيرة لحركة طالبان الأفغانية (2).

ولابد أيضاً من جهد معرفي بحثي شامل ومتكامل لرد مذهبيات وعصبيات التنازع والتصادم إلى جذورها الحقيقية، الاجتماعية، التاريخية، البشرية، ونزع غشاوة القداسة المطلقة عن أبصار الذين ولدوا عليها -دون اختيارهم- فتغذوا بها في بناهم العصبوية المغلقة فصارت هوية وانتماء لهم، في زمن الهويات والانتماءات الحضارية الكبرى، وصار لديهم التنازع والتجادل المذهبي بمثابة تصادم المطلق بالمطلق، والحق بالباطل.

أولاً: تطور مفهوم المواطنة تاريخياً

يرتبط مفهوم المواطنة وممارستها ارتباطاً كبيراً بالدولة، أو بالأحرى، بدرجة تطور الدولة وتطور مؤسساتها وآليات عملها، ودرجة انفتاحها على المجتمع وتواصلها الشامل معه. وبالتالي فإن الحديث بشأن المواطنة لا يستقيم مع الدولة، التي تقوم على الأسس القبلية أو الأسس الطائفية أو الأسس العنصرية العرقية (3).

ولكن قبل التعمق في بحث مسألة المواطنة وإشكالياتها التطبيقية الواقعية في الدولة العربية القائمة، لا بد من تحديد منهجي لمفهوم المواطنة في الاستخدام المعاصر، بصرف النظر عن التطور التاريخي، الذي مر به هذا المفهوم، منذ أن توصلت إليه (دولة المدينة) عند الإغريق في العصور القديمة، من خلال نموذج الممارسة الديمقراطية الأثينية. وعلى الرغم مما شاب هذا النموذج من قصور في التطبيق، من حيث الفئات التي يشملها، وعدم تغطيته لبعض الجوانب التي يتضمنها المفهوم المعاصر للمواطنة، فإنه قد نجح بتحقيق المساواة على قاعدة المواطنة بين الأفراد المتساوين-من وجهة نظره- وذلك من حيث إقرار حقهم في المشاركة السياسية الفعالة، وصولاً إلى تداول السلطة وتولي المناصب العامة. وهذا ما يقرب مفهوم المواطنة في دولة أثينا من المفهوم المعاصر للمواطنة اليوم، ويجعلنا نعدّه أساساً من أسسها(4).

ويعود تاريخ إبداع مبدأ المواطنة في أوربا إلى بداية ظهور الفكر السياسي العقلاني التجريبي، وتزايد تأثيره نتيجة حركات الإصلاح الديني وما تلاها من حركات النهضة والتنوير في الحياة السياسية. وقد استفاد هذا الفكر الجديد من الفكر السياسي اليوناني والفكر القانوني الروماني.

وقد صاغ  الفكر السياسي والقوانين الجديدة في دائرة الحضارة الغربية، منذ القرن الثالث عشر حتى قيام الثورتين الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر، مجموعة  مبادئ واستنباط مؤسسات وتطوير آليات وتوظيف أدوات حكم جديدة، أمكن بعد وضعها موضع التطبيق تدريجياً تأسيس وتنمية نظم حكم قومية مقيدة السلطة، من خلال حركات الإصلاح المصحوبة بالانتفاضات الشعبية الواسعة (5).

وجدير بالذكر أن عملية الانتقال التاريخية من الحكم المطلق إلى الحكم المقيد، ومن وضع (التابع) و(الرعية) إلى وضع المواطن كامل الحقوق، لم تكن عملية سهلة، بل كانت مخاضاً تاريخياً – سياسياً- ثقافياً عسيراً قطعت فيه رؤوس ملوك وزعماء وسالت على دربه دماء شعوب. ويعود الفضل في إنجاز ذلك التحول التاريخي إلى أن الناس في دائرة الحضارة الأوربية (غيّروا ما بأنفسهم) من رضاً بالتبعية وعدم المساواة، إلى إصرار حاسم على المشاركة الفعالة، التي تحقق مصالح الناس وتصون كرامتهم. كما أن القوى المؤثرة عندهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً، استطاعت التوصل إلى قواسم مشتركة شكلت أهدافاً وطنية مشتركة لنضال شعوبها، الأمر الذي سمح بضبط نظام الحكم وترشيده في دائرة الجضارة الغربية.

أما العامل الحاسم الذي أرسى أسس المواطنة المعاصرة في دائرة الحضارة الغربية الحديثة، فقد تمثل في إرساء حكم القانون، وصولاً إلى المساواة التامة أمامه. وقد بدأ حكم القانون (في دائرة الحضارة الأوربية) ينتشر ويتسع نطاقه في العصر الحديث، عندما بدأت الدولة القومية في أوربا تهتم بإصدار القوانين العامة، وأصبحت (صحائف الصكوك هي التي تنظم علاقات الناس، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على الأقل بقدر ما ينظمها السيف) (6).

وبهذا التحول الذي تم بفضل تفاعل ثلاثة عوامل هي: الدولة القومية، والمشاركة السياسية، وحكم القانون، وتطور كل منها، انتقلت دائرة الحضارة الأوربية من المفهوم التقليدي للمواطنة، الذي استمد جذوره من الفكر السياسي الإغريقي والروماني، وجاء تلبية لحاجة الدولة القومية الحديثة ونضال الشعب فيها، إلى المفهوم المعاصر للمواطنة الذي يستند إلى فكر عصر النهضة والتنوير، وأطروحات حقوق الإنسان والمواطن، والدعوة لأن يكون الشعب مصدراً للسلطات (7).

وبذلك ترسخ مبدأ المواطنة وأقرّ حقاً ثابتاً في الحياة السياسية، واتسع نطاق ممارسته تدريجياً، باعتباره إحدى الركائز الأساسية للعملية الديمقراطية.

والمعروف أن مبدأ المواطنة قد شهد منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى وقتنا الحاضر تطوراً نوعياً وكمياً واسعاً، بحسبانه حقاً غير منازع فيه، وقد اتسع نطاق شموله لفئات المواطنين البالغين سن الرشد من الجنسين. كما تحسنت آليات ممارسته وازداد تأثيره على أرض الواقع عندما أصبح جميع المواطنين دون تمييز و(لا سيما المرأة) يتمتعون بحق المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية، تعبيراً عن كون الشعب مصدراً للسلطات.

 

الحواشي:

 (1) حول المؤثرات القبلية قديماً، انظر: فاطمة جمعة، الاتجاهات الحزبية في الإسلام منذ عهد الرسول حتى عصر بني أمية (بيروت: دار الفكر العربي، 1993)، ص 37-44.

(2)محمد جابر الأنصاري، (إشكالية التكوين المجتمعي العربي: أقليات.. أم أكثريات متعددة)، دراسة ضمن كتاب النزاعات الأهلية العربية: العوامل الداخلية والخارجية، تأليف مجموعة من الكتاب والباحثين العرب،تنسيق د.عدنان السيد حسين، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط،1 1997) ص 38.

(3) باقر سليمان النجار، (الفئات والجماعات: صراع الهوية والمواطنة في الخليج العربي)، المستقبل العربي، السنة ،31 العدد ،352 حزيران/يونيو،2008، ص 43.

(4) انظر: علي خليفة الكواري (محرر)، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001)ص 16.

(5) المصدر نفسه، ص24.

(6)عبد الحميد متولي، القانون الدستوري والأنظمة السياسية ( الاسكندرية:مؤسسة المعارف، ط،6 1989)، ص 144.

(7) للاطلاع على مزيد من التفاصيل بهذا الموضوع، انظر: د.سهيل عروسي، من قضايا الفكر السياسي: المواطنية أنموذجاً (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2010).

العدد 1105 - 01/5/2024