في اجتماع اللجنة المركزية…التقرير الاقتصادي يؤكد: ارتفاع التضخم إلى 1200% .. ونزوح وهجرة

قدم الرفيق فؤاد اللحام عضو المكتب السياسي للحزب تقريراً عن آخر التطورات الاقتصادية والاجتماعية، هذا نصه:

تشهد البلاد خلال هذه الفترة تدهوراً غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نتيجة بطء الجهود الدبلوماسية الرامية لتسوية الأزمة السورية سياسياً وتعثرها، وتصاعد المعارك بين الأطراف المتصارعة، واستمرار حالة الحصار والمقاطعة المفروضة على سورية، وتراجع قيمة العملة الوطنية وارتفاع التضخم الذي وصل معدله التراكمي حتى الآن إلى 1200% ما أدى إلى ازدياد الغلاء وتدني المستوى المعيشي للمواطنين. وقد ترافق كل ذلك مع بطء الإجراءات والتدابير الاقتصادية التي اتخذتها وتتخذها الجهات الحكومية المعنية، وتأخرها، وضعف فعالية العديد منها في مواجهة هذه الأوضاع.

لقد أدت الأزمة، كما بات معروفاً وحسب العديد من التقارير والدراسات، إلى نزوح وهجرة داخلية وخارجية لنحو نصف سكان سورية، نتيجة القتل والدمار والتخريب والترهيب الذي أصاب المدن والمناطق المشتعلة. كما أدت إلى تفاقم مشكلة الفقر إذ يقدر معدل الفقر العام في عام 2015 بنحو 85,2% وبلغت نسبة من يعيشون في فقر شديد 96,3% من السكان، وهم غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية. كما بات نحو 35% من السكان يعيشون في فقر مدقع، غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية الأساسية. ويتفاوت مستوى الفقر بين المحافظات ويزداد الوضع سوءاً في مناطق النزاع والمناطق المحاصرة.

كما يشير العديد من التقارير إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في نهاية عام 2015 إلى نحو 2,91 مليون شخص، منهم 2,7 مليون فقدوا عملهم خلال الأزمة، مما يعني فقدان مصدر رئيسي للدخل في معيشة 13,8 مليون شخص. يضاف إلى كل ذلك تراجع الخدمات وبشكل خاص التعليم والصحة والنقل وخسارة البلاد جزءاً هاماً من خيرة كوادرها العلمية والفنية، معظمها بسبب الهجرة. وبغض النظر عن دقة الأرقام التي تظهرها التقارير الإقليمية والدولية حول هذه الأمور ومصداقيتها، ومدى قبولها كلياً أو جزئياً من هذا الطرف أو ذاك، إلا أنها في المحصلة تعطي مؤشرات ذات دلالة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بسبب الأزمة من ناحية، ونتيجة عدد من السياسات الاقتصادية والنقدية التي اتبعتها الجهات المعنية خلال هذه الفترة، من ناحية أخرى.

شكّل الارتفاع الكبير والمستمر في الأسعار صدمة كبيرة لذوي الدخل المحدود، لأنه أصبح فوق طاقتهم وقدرتهم على التحمل والقبول، وتشمل هذه الحالة الغالبية العظمى من أبناء الشعب السوري، سواءٌ الموجودون في المناطق الخاضعة لسلطة الدولة، والموجودون خارجها، عدا الفئات الفاسدة والمتنفذة والمحتكرة وأمراء الحرب والحواجز في مختلف المناطق. ففي الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار بنحو 1200% لم تزدد الأجور خلال السنوات الخمس من عمر الأزمة بأكثر من 50% أو 60% فقط، وهذا ما أدى إلى تردي أوضاع العاملين والمتقاعدين، إذ لا يوجد عامل في الدولة يتعدى راتبه ما يعادل 100 دولار شهرياً. ولم تفلح تهديدات وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ولا دوريات الرقابة التموينية، ولا الاجتماعات مع التجار، لم تفلح في معالجة ارتفاع الأسعار الذي انتقل أيضاً بشكل فوري إلى صالات المؤسسات والشركات العامة التي مارست عملية الرفع المستمر في سعر مادة السكر (الحر) في هذه الصالات بعد أن أوقف العمل بالبطاقة التموينية.

وفي الوقت ذاته أعلن المصرف المركزي عدم مسؤوليته عن خفض الأسعار نتيجة انخفاض سعر الدولار، ودفع بمسؤولية ذلك إلى الجهات الأخرى المعنية بمكافحة التهريب وإغلاق منافذ بيع المواد المهربة، ومحاسبة المسؤولين عن رفع الأسعار في السوق، وتفعيل مؤسسات التدخل الإيجابي. وعمدت وزارة الاتصالات مؤخراً إلى رفع أسعار الإنترنت والهاتف الخليوي من أجل تحقيق المزيد من الأرباح لشركتي الهاتف الخليوي وشركة الاتصالات رغم أن الاتصالات بالهاتف الخليوي أصبحت في العديد من المناطق السورية واسطة الاتصالات الوحيدة، بسبب خروج العديد من المقاسم الهاتفية الثابتة عن الخدمة. والسؤال الذي يجب أن تسأله الجهات المعنية لنفسها قبل أن تطالب المواطن بالصبر والتحمل (كحل وحيد- كما يحلو لبعض المسؤولين التصريح به) هو: إلى متى يستطيع هذا المواطن التحمل والانتظار؟ وما هي المخاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية الممكنة في حال نفد صبر هذا المواطن وقدرته على التحمل؟

وقد شهد الدولار الأمريكي خلال الأسبوعين الأخيرين ارتفاعاً كبيراً وسريعاً في السوق الرسمية وفي السوق السوداء، وساهمت تصريحات حاكم مصرف سورية المركزي وإجراءاته (في البداية عندما حدد سعر التدخل بـ 620 ليرة سورية وتحديد سعر صرف الحوالات الخارجية أقل من سعر السوق بقرابة 100 ليرة)، ساهمت إلى حد كبير في انتشار حالة من الهستيريا في الأسواق والأسعار، إلى أن عُقد عدد من الاجتماعات الرسمية المتخصصة لمناقشة هذا الموضوع ومعالجة التدهور الحاصل، واتخاذ بعض الإجراءات الإدارية التي حدّت في البداية من ارتفاعه، ثم أدت إلى انخفاضه بشكل كبير وسريع من 640 ليرة سورية إلى نحو 470 ليرة سورية حالياً.

ساهمت الإجراءات الأخيرة التي اتخذها المصرف المركزي في تراجع الطلب على الدولار وازدياد العرض منه خوفاً من مزيد من انخفاض قيمته. وقد تمثلت هذه الإجراءات بإلزام شركات ومكاتب الصرافة بشراء كمية من القطع الأجنبي وبيعها فوراً دون ربح بالليرات السورية، والسماح للمصارف المرخصة ببيع حصيلة القطع الأجنبي المشتراة لتمويل العمليات التجارية وغير التجارية دون أي ضوابط، وذلك لعرض المزيد من الدولارات في السوق، كما جرى إعفاء المصدرين من تسديد تعهداتهم بإعادة قطع التصدير حتى بداية شهر أيلول القادم، بهدف خفض الطلب على الدولار، وكذلك جرى تحديد سعر جيد للحوالات الشخصية قريب من سعر السوق السوداء واتاحة الفرصة لأصحابها بفتح حساب خاص بها والسحب منها حسب رغبتهم، بهدف تشجيعهم على تحصيل حوالاتهم الخارجية بالليرات السورية من شركات الصرافة المحلية، وإضافة إلى ذلك جرى تقييد حركة السحوبات من البنوك وحصرها بمبالغ قليلة، الأمر الذي أدى إلى ضعف السيولة بالليرات السورية في السوق وانخفاض الطلب على الدولار وزيادة المعروض منه خوفاً من المزيد من انخفاض قيمته.

إلا أن كل هذا الانخفاض في سعر الدولار، وإن أدى إلى انخفاض بسيط في سعر بعض المواد حتى الآن، فإنه لم يؤدّ إلى عودة الأسعار إلى ما كانت عليه قبل هذه الفورة. ومع ذلك لا يمكننا القول إن وضع الدولار في السوق قد استقر وفق ما تعودنا عليه من سياسات المصرف المركزي في هذا المجال، ذلك أن جلسات التدخل التي كان يمارسها بين الحين والآخر كانت عبارة عن أداة لتجميد ارتفاع سعر الدولار أو تخفيضه لفترة محدودة، ليعاود الصعود من جديد وبارتفاع مستمر. علماً بأن رفع سعر الدولار كما بات معروفاً يساعد البنك المركزي في تأمين السيولة اللازمة لتسديد رواتب العاملين والمتقاعدين التي كان ينخفض ما يعادلها بسعر الدولار بشكل مستمر مع ارتفاع قيمته.

وبعيداً عن المبالغة والتهويل أو التخفيف من صعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي ومخاطره، من قبل هذا الطرف أو ذاك، لابد من الإشارة إلى أن هناك عدة أسباب ساهمت وما تزال تساهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانخفاض قيمة الليرة السورية من أهمها:

1- استمرار الأعمال القتالية وتعثر الجهود الرامية إلى حل سياسي للأزمة السورية، واستمرار اجراءات المقاطعة والحصار وتمديد فرض العقوبات على سورية، التي دفع ويدفع ثمنها حصرياً وبشكل كامل المواطن السوري العادي وحده.

2- التراجع الكبير في الموارد من القطع الأجنبي التي كانت تعتمد على النفط والصادرات الزراعية والصناعية ودخل السياحة والتحويلات الخارجية، والاضطرار نتيجة ذلك إلى انفاق المزيد من القطع الأجنبي لتأمين البديل عن المنتجات النفطية والزراعية والصناعية عن طريق الاستيراد النظامي وغير النظامي، ما زاد الطلب على القطع الأجنبي، فقد بلغت قيمة المستوردات النظامية في عام 2015 نحو 5,2 مليار دولار، في حين بلغت قيمة الصادرات أقل من 10% من هذا المبلغ .

3- زيادة حجم الإصدار النقدي لتمويل العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة منذ عام 2011 إذ سحبت وزارة المالية من البنك المركزي بحدود 3,5 تريليونات ليرة إصداراً من دون تغطية، وهذا الأمر ضغط على سعر الصرف وساهم بتخفيضه.

4- فرض سعر صرف للحوالات الخارجية بفارق كبير عن سعر السوق غير النظامية (وصل في بعض الأوقات إلى نحو 100 ليرة سورية) ما دفع أصحاب هذه الحوالات إلى الالتفاف على هذا الإجراء بقبضها من لبنان أو من خلال بعض التجار.

5- العامل النفسي سواء المتعلق بالأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية أو بحالة التحوط على المدخرات الخاصة والمحافظة على قيمتها، في ظل الحديث عن تراجع حجم الاحتياطي النقدي من القطع الأجنبي إلى مستوى 700 مليون دولار حسب تصريحات البنك الدولي الأخيرة.

6- انتشار التعامل بالدولار في بعض المناطق خارج سيطرة الدولة.

7- حالات التلاعب في البيع والشراء التي تمارسها شركات ومكاتب الصرافة مع ما يشوبها من حالات تواطؤ وفساد ومضاربة واستغلال، خاصة في الوقت الذي تراجعت فيه حركة الهجرة من سورية إلى تركيا، فهذه الهجرة كانت تشكل سبباً هاماً لارتفاع الطلب على القطع الأجنبي.

8- التقييدات التي وضعت بخصوص منح إجازات الاستيراد.

إن الإجراءات الأخيرة والمتأخرة التي اتخذها البنك المركزي والتي أدت إلى خفض سعر الدولار في السوق المحلية تطرح جملة من الأسئلة في مقدمتها:

1- هل كان من الضروري وصول الأمور إلى ما وصلت إليه مؤخراً حتى يحدث التدخل بهذه الصورة؟

2- إذا كان المركزي قادراً – وقد استطاع فعلاً- على مواجهة هذا الانخفاض الكبير، فلماذا لم يتدخل بهذا الشكل قبل الآن لوقف تدهور قيمة الليرة السورية؟؟

3- هل يضمن المركزي عدم تكرار أو استمرار عملية الانخفاض بعد الآن؟ وهل جرى على أرض الواقع المادي توفير الظروف المطلوبة لتحقيق استقرار سعر الصرف بالمستوى الذي وصل إليه؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات لن تكون لصالح الحكومة ولا البنك المركزي رغم (الإنجاز) الذي تم تحقيقه حتى الآن، فمن استطاع تحقيق ما تحقق، كان بإمكانه القيام بذلك قبل الآن والحيلولة دون وصول الأمور إلى ما وصلت إليه. وإذا كان هذا الإجراء سيستمر العمل به، فهل جرى توفير مستلزمات ذلك على أرض الواقع؟ تجدر الإشارة إلى أن هناك مخاوف يبديها بعض المحللين بأن تكون الإجراءات المتخذة حتى الآن هي تضحية بجزء من الاحتياطي الموجود لتحقيق هدف التخفيض مؤقتاً، في الوقت الذي يرى فيه البعض الآخر أنه جاء نتيجة دعم خارجي جديد بالقطع الأجنبي لهذه الغاية سرعان ما يجري استنزافه.

إن وقف تدهور العملة الوطنية يرتبط بشكل رئيسي بالأمور التالية:

1- الوضع العسكري على الأرض ووضع المفاوضات بين الأطراف المتنازعة للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية يضمن قيام نظام ديمقراطي تعددي يضمن حقوق كل أبنائه ومكوناته، ويعمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة والمتوازنة لهم. إلا أن هذا لا يعني الانتظار إلى حين تحقّق ذلك، فلابد من بذل ما يمكن من الجهود للحد من تدهور هذه الأوضاع في الوقت الراهن..

2- إعادة عجلة الإنتاج والعمل في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية لخفض الاستيراد وزيادة التصدير وتشغيل ما يمكن من العاطلين وتحريك السوق.

3- اتخاذ الإجراءات والتدابير المدروسة في المجال الاقتصادي وخصوصاً المالي والنقدي، بمشاركة الخبراء والمختصين والجهات الخاصة والعامة المعنية، بعيداً عن التجريب وسياسة القرار يوماً بيوم.

وفي هذا المجال فإنه من المفيد للجهات المعنية وفرق العمل المطلوب تشكيلها العمل على ما يلي:

1- تمويل المستوردات الضرورية بالكميات والأوقات المناسبة وبشكل عادل ومتوازن، والحد من استيراد المنتجات غير الضرورية، ووقف استيراد المنتجات التي يتوفر منها إنتاج محلي كاف، مع فرض رسوم جمركية مناسبة على المنتجات التي تسد نقص الحاجة المحلية منها خلال هذه الفترة، للحيلولة دون المنافسة غير العادلة مع المنتج الوطني.

2- تحقيق التوازن بين حجم الاحتياطي النقدي الموجود من القطع الأجنبي وسعر الصرف المناسب.

3- تحديد سعر عادل وقريب من سعر السوق غير النظامية لأسعار الحوالات الخارجية.

4- تشديد الرقابة على شركات ومكاتب الصرافة وتجار العملة غير النظاميين للحد من عملية المضاربة بالقطع الأجنبي.

5- استعادة دور الدولة ومؤسسات التدخل الإيجابي العامة والأهلية في توفير السلع الضرورية للمواطنين، وإعادة العمل بالبطاقة التموينية وتوسيعها بحيث تضم سلة من المواد الغذائية الضرورية.

6- تشجيع الودائع المحلية بالقطع الأجنبي ومنح فائدة مقبولة عليها.

7- إصدار سندات عامة بالليرات السورية لفترة محددة بفوائد مشجعة.

8- العمل مع الأصدقاء من أجل إلغاء أو تخفيف حالة الحصار المفروضة على المواطنين السوريين.

9- اعتماد المقايضة قدر الإمكان في التبادل التجاري مع الأصدقاء ومع ما يمكن من الدول الأخرى التي لا تقاطع سورية.

10- اتخاذ الإجراءات اللازمة لتشجيع المستثمرين السوريين الذين غادروا سورية على العودة إلى منشآتهم وأعمالهم في سورية.

11- تنفيذ برامج تدريبية للمهجرين والعاطلين عن العمل منذ الآن لتوفير اليد العاملة اللازمة في مجالات إعادة الإعمار والبناء.

ونعود للتأكيد إن من أهم الإجراءات التي يمكن أن تساهم في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة في سورية يكمن في وقف الاقتتال وتحقيق المصالحة والإصلاح، والتوصل إلى توافق وطني إقليمي دولي يوقف الحرب المسعورة على سورية وفيها، ويؤمّن الانتقال السلمي السلس إلى نظام وطني تعددي ديمقراطي يحافظ على وحدة الوطن وحقوق كل أبنائه ومكوناته، ويعمل على تحقيق التنمية العادلة والمتوازنة لهم.

العدد 1105 - 01/5/2024