سعدو الذيب.. بكّرت الرحيل … وداعاً بدمعة الجبل الذي أحبّك

من يتذكر حنين البيئة التراثية لجبل العرب بأغنية (غالي علينا يا جبل) و(يوماً على يوم) وعشرات الأغاني التي صدح بها صوت الرجولة الراحل (فهد بلان)، يعلم أن وراء تلك الأغاني والكلمات المعبرة الحاملة نفحات الماضي ورائحة تراب الجبل موهبةٌ فنية خلاقة.

الشاعر والملحن وكاتب الدراما (سعدو الذيب) قدّم للمكتبة الموسيقية أكثر من ثلاثمئة أغنية من كلماته وألحانه، وكتب العديد من المسلسلات الوثائقية والدرامية البدوية. هو ذاك الصوت الشجي القوي الذي تستمع إلى قصائده الشعرية فتجد فيها (عمار يا سورية عمار).

لعل (سعدو الذيب) الشاعر الذي كتب القصيدة مبكراً، وحمل معاناته على أكتافه، ليحلق فيها بفضاء الزمن الرحب، مغرداً بين أسراب الحمام، ناقلاً ثقافته المحلية التي اكتسبها من أرض السويداء، المدينة التي لم تعرف يوماً إلا البطولة والشهامة، ووقف رجالها مثل حجارتها البازلتية الصلبة بوجه الرياح وصدوا غزوات الاستعمار العثماني، وحملات الفرنسيين، وفي مضافاتها المشرعة بالحب والود والوئام، نهل (سعدو الذيب) ثقافته الاجتماعية، بعد أن لعب على تراب بيادرها وتنشق هواءها، وهو يستمع إلى ناي رعيانها، وأهازيج شيوخها، وزغاريد نسائها، وحداء فرسانها على خيولهم، لم تمحها عذابات السنين، بل غرد وصدح من غبارها (جتنا تبرقع)، و(شيّلوا)، و(حنّيت إلك حنيت)، وعانقت كلماته وألحانه صوت الرجولة الراحل (فهد بلان) مدة عقد ونيف من الزمن، ليقدم معه أكثر من عشرة أعمال ختم الأخير حياته بها وخاصة في أغنيتيه (عالبال بعدك يا سهل حوران، وغالي علينا يا جبل).

رحل (فهد) وهو يغني (يا شام) التي سجلت على شكل (بروفا)، واستمر (الذيب) يقدم أفلاماً وثائقية نافحاً من مخزونه الثقافي الكثير من الأعمال الإبداعية، خاصة أنه كاتب دراما من النوع المميز، وشاعر له مع القصيدة حكايا، بادئاً مشواره الجديد بـ (عمار يا سورية عمار).

وحول أغنيته (عالبال بعدك يا سهل حوران) بين الكاتب الكبير (حنا مينة) رأيه فيها بزاوية كتبها في جريدة تشرين السورية بعنوان (من البحر إلى الجبل) قال فيها: (لقد فتنت إلى حد الإدهاش من عبارة (شرشف قصب ومطرّز بنيسان)، وسعيت لمعرفة الشاعر الرقيق، العذب، حلو الشمائل الذي قالها، وفوق هذا أن يكون هذا الشرشف القصبي المطرز بنيسان موجوداً في حياة أمة إلى العروبة منتماها ومفداها، فإن ذلك من الابتكارات النادرة في حياتنا كبشر).

هناك جانب في (سعدو الذيب)، لم يلق الضوء عليه في الصحافة، وهو أنه فنان وملحن وشاعر وكاتب دراما، إلا أنه ينطوي على حالة من الإنسانية، والعاطفة الجياشة بشكل كبير، إذ تراه يبتسم وقد لا يكون في جيبه ثمن ربطة الخبز، رغم زحمة الأماكن والفضاء الرحب الأوسع لمغريات الحياة، لكنه يأبى ذلك عند رؤية طفل يردد أغانيه أو أشعاره، يكبر كالجبل، وهو يعتز كل الاعتزاز بانتمائه إلى جبل العرب، لا ينكر أصدقاءه، ولذلك قال عنه الشاعر الكبير محمد الماغوط: (شعر سعدو الذيب وألحانه هي الأقرب إلى الروح)، لأنه شعر بحس الشاعر بأنه ينطوي على جمالية خاصة في روحه الإنسانية، لذلك (ارتفع سعدو) بفنه وإبداعه وتواضعه وإنسانيته إلى مصاف جبل العرب).

في جبل العرب الذي له مع التاريخ شأن، وفي جو مجتمع يسود بخلجاته المحبة والتشارك ضد ظلم الحياة، كانت ولادته عام ،1954 وفي كنف أسرة كان الفقر عنوانها، والمحافظة على القيم والأخلاق الاجتماعية شعارها، الأسرة التي ربته على الأمانة، والكرم، والشهامة، درس في المدارس الابتدائية بقرية (دويري)، والإعدادية والثانوية في السويداء، وخلال أيام الثانوية كتب أول مقال بعنوان (على الرصيف) في مجلة (جيش الشعب)، ودخل جامعة دمشق كلية الآداب قسم الفلسفة، انتقل بعد ذلك إلى دول الخليج العربي، عاملاً في حقل الثقافة بجريدة (اليوم) لمدة ثلاث سنوات كتبت فيها الخواطر والشعر، ثم اتجه إلى الأعمال الحرة وعاد إلى بلده (سورية) عام ،1986 فكان اللقاء التاريخي مع الفنان الراحل مطرب الرجولة (فهد بلان) المحطة الجديدة في حياته، إذ بدأ بكتابة الأغاني وتلحينها، وأول تجربة له كانت أغنية (جتنا تبرقع) غناها الفنان (داوود رضوان)، وبدأ مشواره الفني بخطا واثقة مع الراحل (فهد بلان) بأغنية (عالبال بعد يا سهل حوران) التي حصلت على إعجاب كبير من الجمهور وأصبحت من التراث الغنائي السوري، وخلال ثلاثة عشر عاماً قدم مع الراحل (فهد) ثلاث عشرة أغنية، وكانا على موعد مع مشروع وطني يشمل المحافظات السورية بعد أن بدأ في السويداء بأغنية (غالي علينا يا جبل)، ثم في محافظة دير الزور بأغنية (سلامين) والتي يقول فيها (سلامي للي مفارقوا سلامي لأهل الدير)، لكن يد المنون كانت بالمرصاد للكبير الراحل (فهد بلان).

بعد أن تعرف على (فهد بلان) عام ،1986 سافر عام 1988 لمدة عامين إلى (دبي)، ومنها انطلق بكتابة الدراما.

بعد ذلك رجع إلى سورية عام ،1990 ليقدم الأغنية التي حققت جماهيرية واسعة وهي (يوماً على يوم) بصوت (فهد بلان)، ثم أعمال أخرى منها (شيّلوا، وحنيت، وقسمة ونصيب، يا طير، سفرهم طال، ترحل ولا كلمة وداع، طيور السما، دمعي اليوم، دنيا، وغيرها)، في تلك الفترة ما بين عامي 1989 و1997.

 

العدد 1105 - 01/5/2024