الإشكالية بين ما هو ليبرالي وما هو ديمقراطي

كثيراً ما يجري الخلط في النقاشات التي تجري حالياً على مستوى مختلف التيارات السياسية والفكرية في البلاد، بين مفهومين ، هما الديمقراطية والليبرالية، وكأنهما شيء واحد، رغم تشابكهما مع بعضهما البعض. وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى اعتبار أن الديمقراطية – التي هي الليبرالية، حسب زعمهم – هي اختراع غربي لا يتلاءم مع ظروف بلادنا، ويحمل في طياته شيئاً من الازدواجية، حتى أن من يتحدث بذلك يُتهم كما لو أنه ارتكب معصية كبيرة. ومن هنا بالذات يجب التدقيق في معنى كل من هذين المصطلحين، وفي محتواهما الأساسي، لإزالة اللبس والإبهام عنهما. فهما مصطلحان مختلفان، ولم ينشأا تاريخياً في الوقت ذاته. فالديمقراطية قد نشأ مفهومها قديماً جداً، قبل أن تكون لدى الإنسان إمكانية التفكير فيما أطلق عليه فيما بعد اسم الليبرالية. وعبَّر هذا المفهوم، مفهوم الديمقراطية، عن نزعة إنسانية عميقة، تطورت من أشكال بدائية إلى منظومة إنسانية كاملة في وقتنا الحاضر.

أما الليبرالية، فقد نشأت مع بداية تكوّن علاقات الإنتاج الرأسمالية، أي في القرنين الثامن والتاسع عشر. فهي تيار إيديولوجي سياسي اجتماعي كان يعكس مصالح الطبقة البرجوازية الناشئة، التي كانت تناضل من أجل إزاحة علاقات الإنتاج الإقطاعية المعيقة لحركة نموها وتطورها. وما شعار، (دعه يعمل دعه يمر)، الذي طرح في القرن التاسع عشر، إلا تعبيراً حقيقياً عن الجوهر العميق لليبرالية، وخصوصاً في مجالها الاقتصادي. وقد أدى ذلك إلى انعكاسات في المجال السياسي أيضاً، يكمن محتواه في دعم النظام البرلماني، والحريات البرجوازية فيما يتعلق بتأمين مصالحها- مصالح البرجوازية. وبمعنى آخر، إن الحرية الاقتصادية التي أفرزها انتصار علاقات الإنتاج الرأسمالية، كان يجب حتماً أن تقدم غطاء سياسياً وفكرياً لذلك، انعكس هذا في الأنظمة البرلمانية الانتخابية، وحرية تكوّن الأحزاب ومختلف المؤسسات الأخرى، في الإطار الذي يضمن مصالح البرجوازية وتطورها اللاحق. وعندما كانت هذه المصالح تتعرض للخطر، كانت البرجوازية كطبقة تضرب عرض الحائط بكل هذه الأفكار حول الحرية وحرية الأحزاب..الخ، وتلجأ إلى أساليب أخرى معاكسة. بمعنى أدق، إن الليبرالية قد أعطت الحريات السياسية الدرجة الأولى، ولكنها لم تقدم أية ضمانات لحماية هذه الحقوق، أو قدمت ضمانات شكلية، ماجعل هذه الحريات مرهونة كاملاً بمصالح البرجوازية. فالفئات الاجتماعية المختلفة، يمكن أن تشكل أحزاباً، وأن يسمح لها بممارسة نشاطها، بشرط أن لاتتعدى خطاً أحمر قد رسمته البرجوازية مسبقاً، رغم أنها تعرف أن الحريات الانتخابية في بلدان الرأسمال، تحددها في كثير من الأحيان الدعاية حتى المشوِّهة للواقع، والتي تحتاج إلى أموال طائلة غير متوفرة إلاّ لديها.

 إذاً، الليبرالية نشأت في مرحلة تاريخية محددة مرتبطة بنشوء البرجوازية. وهي تدعو إلى الحريات السياسية ذات الطابع البرلماني بشرط أن لا تتناقض مع مصالحها بشكل عام. إن الليبرالية بمحتواها الاقتصادي، كانت تعني باستمرار، حرية حركة الرأسمال دون قيد أو شرط وما ينتج عن ذلك سياسياً. ونستطيع في هذا السياق أن نسوق أمثلة كثيرة على صحة ما نقوله، سواء من التاريخ الأقدم قليلاً، أو من تاريخنا الحالي. ولسنا هنا بصدد الدراسة المفصلة عن الليبرالية.

أما الديمقراطية، فهي كما قلنا، مفهوم ومصطلح قديم، كانت تعني سابقاً، شكلاً للدولة مؤسساً على الاعتراف بأن الشعب هو مصدر السلطة، وله الحق في المشاركة بإدارة الشؤون الحكومية، وكذلك بالتوافق مع دائرة واسعة من الحقوق والحريات المدنية. إنها اعتراف بمساواة كل المواطنين في الحريات السياسية وغيرها من الحريات الأخرى. إنها اعتراف بانتخاب الهيئات التمثيلية إلى السلطة انتخاباً حراً من خلال تثبيت حقوق انتخابية عامة، مع ضرورة وجود ضمانات لتحقيق ذلك. أي أن الديمقراطية من حيث الجوهر، تعني الحريات التي تأخذ أبعاداً فكرية وسياسية واجتماعية، مع التأكيد على الضمانات التي تحمي هذه الحريات. وهذه ليست موجودة في الليبرالية.

 مفهوم الديمقراطية، شأنه شأن أي مفاهيم أخرى، تعرّض عبر التاريخ لتطور مستمر، وهذا التطور كان مرتبطاً باستمرار بالتطور الحضاري للبشرية، ونزوعها إلى تحقيق الحرية، أي أنها اتخذت طابعاً عبّر عن نزعة إنسانية عميقة. لكنها لم تستكمل أبعادها إلى وقتنا الحاضر. فالديمقراطية مثلاً، في العهود القديمة، لم تكن كمنظومة من القيم تشمل جميع الفئات الاجتماعية، فالعبد في أثينا أو روما، لم تكن تشمله، لأنه لم يكن يعتبر إنساناً، وإنما كان يعتبر أداة انتاج. وفي العهود الوسطى، تعرضت قيم الديمقراطية إلى نكسة كبيرة، إذ سيطرت لفترة طويلة آنذاك الأفكار المطلقة التسليمية التي كانت تخدم تكريس الاستبداد الاقطاعي. بيد أن ذلك لم يستطع القضاء على بذور المقاومة التي كانت تنمو باستمرار، والتي كانت تعبر عن المستقبل. وقد قدم المنوِّرون الأوائل على مذبح الفكر الديمقراطي في القرون الوسطى، ضحايا لا تعد ولا تحصى. ورغم ذلك كان يشق طريقه بثبات إلى الأمام دائماً. وبفضل ذلك، وبفضل عوامل اقتصادية واجتماعية وغيرها، انهارت الإقطاعية، بصفتها نظاماً اجتماعياً، وأتت البرجوازية التي عملت جاهدة ولا تزال تعمل، إلى اختزال الفكر الديمقراطي بأفكارها الليبرالية، التي تخدم مصالحها فقط. أي أنها تسعى لتفريغ الديمقراطية من أي محتوى اجتماعي. بيد أن الفكر الديمقراطي كان يترسخ في أذهان الجماهير عبر آلاف السنين من التطور، وكان يتطور شكلاً ومضموناً مع تطور الحضارة البشرية. ويصبح أغنى فأغنى، رغم كل التشوهات التي تعرض لها سابقاً.

إن الديمقراطية نتيجة المطاف، هي منظومة من القيم الانسانية، تتيح للإنسان التطور بحرية، مع وجود ضمانات لهذه القيم واستمراريتها في الحياة، وهذا ما يفرقها عن الليبرالية التي لا تقدم أية ضمانات.

 إن الديمقراطية أغنى من الليبرالية، وتستوعب في داخلها بعض جوانب الليبرالية، إلا أن الليبرالية ليست الديمقراطية، إنها جزء يسير من بعض القيم التي طرحتها الديمقراطية، والتي سعت البرجوازية لإخضاعها لمصالحها.

 الديمقراطية إرث إنساني حضاري عظيم، له محتوى اجتماعي، بمعنى أنه ليس منعزلاً عن الإنسان ولا عن تطوره، ولا عن علاقة الناس بعضهم ببعض، ولكنه من جانب آخر، غير مشروط بمصالح هذه الفئة الاجتماعية أو تلك. فهي ملك للبشرية، وملك لجميع الفئات الاجتماعية، ولا يمكن منع أية فئة اجتماعية، من ممارسة الديمقراطية أو يُسحب عنها بساط الديمقراطية. إن كل الطبقات والفئات الاجتماعية، يمكن أن تستثمر هذه القيم لمصالحها، ومن بيديه مفاتيح  المستقبل، هو الذي سيكون الرابح الأساسي من هذه العملية. ونرى أن الجماهير الشعبية ستكون هي الرابح الأساسي من استخدامها للديمقراطية، وليس أولئك الذين يعملون على استخدام الديمقراطية لتحقيق مصالحهم الضيقة. إنها عملية جدلية تحمل في طياتها المتناقضات المعقدة، إلا أنها ستجد دائماً وأبداً الحلول التي تخدم التطور التقدمي للبشرية بأسرها.

العدد 1105 - 01/5/2024