نظرات في فلسفة الخير والشـر والظلم والعدل…

كان الفلاسفة قبل (سقراط) مهمومين بالتأمل الكوني / الوجودي: ما أصل الكون / الوجود؟ ما جوهره؟ وما مصيره؟ ومن ثم كانت معرفة ماهية الكون وتفسيره شغلهم الشاغل، إلى أنْ جاء سقراط وكانت نقلته الكبرى الأساسية: (إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض) – على حدّ تعبير مؤرخي الفلسفة. فقد سعى هذا الفيلسوف الرائد على نحو حثيث إلى تحويل الاهتمام من المسائل الكونية وما يتفرّع عنها إلى المسائل الإنسانية في مجالاتها المتنوّعة الرحبة… وكانت عبارته، أو شعاره الشهير: (اعرف نفسك بنفسك) يعني، فيما يعني، أمرين جوهريين اثنين:

 الأول هو الإعلان عن بدء تحويل مجرى التفكير الفلسفي، والثاني هو الإشهار عن رباط محكم بين الفلسفة والنفس، فالبحث في النفس وتجلياتها اللامحدودة ومسائلها ومظاهرها وطبيعتها وميولها ونزعاتها ومعرفة مصيرها.. من البحوث الحيوية التي لا يستطيع، في أي حال من الأحوال، أيّ إنسان، كائناً من كان أن يشيح بوجهه عنها، ومن هنا كان ذلك الرباط المحكم الذي لا بدّ منه ولا مفرّ.

 وبناء على هذه البذور والمقدمات نتج أو ظهر، لاحقاً، علم النفس، وعلم الأخلاق، وعلم المنطق، وعلم ما وراء الطبيعة، فهذه العلوم جميعاً تفرّعتْ عن الفلسفة (أم العلوم) وارتبطتْ بها.

 إنّ الفلسفة ـ وهذا ما يهمنا هاهنا ـ في إحدى غاياتها ترمي إلى معرفة الخير ومعرفة الشّر، وتسعى إلى تكوين وتحديد صورة شاملة ومتكاملة للسلوك الإنساني الذي عليه أن يسير وفق طبيعة نفس الإنسان، ووفق مقتضيات الخير والشّر، فتساعده على فعل الأول والابتعاد عن الأخير. لقد كان الشيخ الرئيس (ابن سينا) يعتقد ـ ومذهبه في الخير هو مذهب التفاؤل ـ أنّ الخير يفيض من المبدع الأول على العالم… والشّر موجود داخل هذا العالم، إلا أن الشّر ليس هو الغالب في الوجود/ الكون، بل الخير هو الغالب فيه، ولا معنى للخير بدون الشّر، كما أنّه لا معنى للنور من دون الظلمة…وكان (أفلاطون) يسمّي الإله بالخير الأعلى، والجمال الأبديّ الإلهيّ بالخير المطلق.

 واستقراء المدارس أو المذاهب الأدبية يقول لنا بجلاء: ما من مذهب أدبي ظهر وتطوّر وثبت واستمر، أو انحلّ وتلاشى ودخل متحف التاريخ إلا وكان له خلفية فلسفية.

إنّ المذاهب الفلسفية هي ـ من قبلُ ومن بعدُ ـ انعكاس للأوضاع (النظام) الاجتماعية، فالنظام الرأسمالي الجديد، على سبيل المثال، الذي نهض على أنقاض النظام الإقطاعي أنتج مذهبه الفلسفي وعلومه التي تفرعت عنه، وتجلياته الثقافية كانت على كل صعيد، فعلى الصعيد الأخلاقي كان التيار النفعي الفردي، وعلى الصعيد الاقتصادي كان مبدأ (دعه يفعل، دعه يمرّ)، وعلى الصعيد الأدبي كان التيار الرومانسي أو الرومانتيكي أو الرومانطيقي… وهكذا، ففي الوقت الذي كان فيه (جان جاك روسو) يمهّد للرومانسية في فرنسا ويعتقد بالفلسفة المثالية التي ترى الحياة رغداً وطيبَ عيشٍ وسعادة وجمالاً.. وتتغنّى بخيرية الإنسان الطبيعية، وتقول عبر نظرية العقد الاجتماعي: إنّ الحياة الاجتماعية / المدنية هي التي قامت بإفساد هذا الإنسان الخيّر بطبعه… في هذا الوقت كان (فولتير) يمهّد للواقعية، ويسخر في شعره وقصصه وكتاباته سخرية لاذعة من المثالية، ويلتزم فلسفياً بالتصوير الحي الأمين لمظاهر الحياة والطبيعة وتجلياتها كما هي، ويعرض الأحداث والظروف والآراء والأفكار دون نظرٍ مثاليّ في كل ذلك.

 بناء على هذا النظر الفلسفي غدا فهم الواقع وإظهار خفاياه ووقائعه وتفسيره، والعناية بتصوير أحوال الناس والمجتمع على ما هو عليه همّ الواقعية الأكبر، إلا أنّها أي الواقعية تنظر إلى الحياة ووقائعها ومختلف مظاهرها من منظار أسود، وترى أنّ أصل الحياة وجوهرها هو الشّر، وما يخلّفه من ظلم وفساد وقهر ووحشية وقسوة ومحن وعذاب… فالقيم الأخلاقية وجميع القيم التي تسمّى قيماً خيّرة هي قيم مبنية فلسفياً ولغوياً وواقعياً على الأَثَرَةِ (الأنانية، حبُّ الذات والنفس مع عدم التفكير بالآخرين، الاستئثار، وتفضيل المرء نفسه على غيره بإطلاق…) التي تقف في الجهة المقابلة والمضادة للإيثار… وهذه القيم، كما ترى الواقعية، تقف عاجزة أمام الجبروت المدمر لذلك الوحش الكامن في العالم السفلي المظلم للإنسان… ألم يقل الفيلسوف الإنكليزي الواقعي (هوبس) أنّ الإنسان للإنسان ذئب ضار، أو إنّ الإنسان ذئب على أخيه الإنسان؟! ألم يقل (نيتشه) في (زرادشت): إنّ الضعفاء يحسبون أنفسهم صالحين، لأنّ ليس لهم براثن؟! و(أفلاطون) ألم يقل في (الجمهورية): العدالة إنّما هي حقّ الأقوى؟! و (أرسطو) ألم يكن، انطلاقاً من النظام الاجتماعي اليوناني، يرى أنّه من الخير والعدل أنْ يخضع العبد (المنتج..) لسيده (المالك الحرّ..) كما يخضع الجسد للنفس؟!

 والمعلم الثاني (الفارابي) الذي كان مذهبه في الأخلاق مبنياً على الفضيلة وليس على القوة كمذهب نيتشه، ألم يذهب إلى أنّ العدل هو التغالب، والغالب قد يهلك المغلوب، وقد يبقيه ليستخدمه، ويستعبده، وينتفع به…

 والتاريخ الإنساني المتشح بالسواد، المدمى والمثقل بالمظالم واللاعدل… ألم يقل لنا إنّ القيصر، دائماً وأبداً، هو القيصر؟ ألم يُظهر (سعد الله ونوس) بشكل لا يقبل الشك أنّ (الملك هو الملك) في كل زمان ومكان؟ ألم يصرخ الشاعر (خليل مطران) في (قصة الظلم البشري) قائلاً: إنّ (كسرى) هو كل حاكم مستبدّ، ظالم، جائر على مرّ العصور؟ ألم (يندّد) في الوقت نفسه بالشعوب الخانعة، الخاضعة، الساكنة، المستكينة والمستسلمة…؟

إنْ تستطعْ فاشربْ مِن الدّمِ خمرة ..|..  واجعلْ جماجمَ عابديك نعالا

لو كانَ في تلك النعاجِ مقاومٌ ..|..  لكَ لم تجئْ ماجئْتهُ استفحالا

 ألمْ يعلن المفكّر الرائد الجريء، المغتال (عبد الرحمن الكواكبي) الذي وقف حياته على مناهضة الظلم ومقاومة الاستبداد: إنّ المستبدّ يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلمُ من نفسه أنّه الغاصب المتعدي فيضعُ كعبَ رجلِه على أفواه الملايين يسدّها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته… فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم… ومن المعلوم أنّ الاستعداد للفعل فعلٌ يكفي شرّ الاستبداد..؟

 أما نشيد الشعر العربي أبو الطيب المتنبي فيرى أنّ النفس البشرية مطبوعة على الظلم،

والظّلمُ من شيمِ النّفوسِ فإنْ تجد ..|.. ذا عفة فلعلّة لا يظلمُ

 ولكنّ أبا الطيب لم يكشف عن هذه العلّة، أهي علة سياسية، أم علة دينية، أم نفسية..؟ أهو الخوف والضعف، أم الجبن، أم العجز، أم اليأس، أم المباهاة، أم المجد، أم كل ذلك جميعاً…؟

 أياً كان الجواب، وأياً كان الأمر والموقف ممّا تقدم جميعاً نقول: القيم الخيّرة ضرورة قصوى، ولو لم تكنْ موجودة لوجب أنْ تُخترع لأجل الإنسان واستقامة الحياة الإنسانية قاطبة…

 

***

 بقي أنْ نقول: إذا كانتْ نقلة (سقراط) الكبرى والأساسية هي أنه قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض… فإن النقلة التاريخية المركزية والجوهرية هي النقلة (الماركسية)، حين أعلنت هذه الفلسفة وعملت على تغيير العالم، ولم تكتفِ، كما فعلت الفلسفات الأخرى، بتفسيره.

 مع الإشارة إلى أنّ الماركسية قد تختلف أو تتفق جزئياً أو كلياً مع كل ما كُتب أعلاه، وهذا يتطلَّب بحثاً مستقلاً.

 وبعد.. ما أحوجنا في حالتنا الراهنة، سورياً وعربياً، إلى الوضوح الفكري والرؤية الشاملة.. إلى فلسفة علمية ثورية، تكون، بما تحمل من معانٍ ودلالات اجتماعية وإنسانية عميقة، سلاحاً بشرياً فعّالاً للكفاح من أجل البناء والحياة…

العدد 1105 - 01/5/2024