ماركس ضد سبنسر… إغلاق عروق أمريكا اللاتينية

(إن عروق أمريكا اللاتينية مفتوحة، أرضها وثمارها وأعماقها الغنية وشعوبها وقدراتهم، كلها كان يمتصها الرأسمال الأوربي، ثم الأمريكي)

إدواردو غاليانو

 

في القرن الحادي والعشرين، بدأت أمريكا اللاتينية بالتحول نحو اليسار، بعد عقود من القمع السياسي والظلم الاقتصادي والتدخل العسكري، ساقتها الديكتاتوريات اليمينية والولايات المتحدة، في أنحاء القارة، لحماية الطبقات الأوليغارشية، ومصالح واشنطن، ولمحاربة المد اليساري. سبقت هذا التحول فترة من اشاعة الديمقراطية وسقوط الديكتاتوريات في ظل استمرار الظلم الاقتصادي، متغطياً هذه المرة لا بمحاربة الشيوعية، بل بأيديولوجيا الاقتصاد الرأسمالي الحر، وما عرف في التسعينيات بتوافق واشنطن والخصخصة والتجارة الحرة، وإلى ما هنالك من طلاسم كانت في جعبة صندوق النقد والبنك الدوليين، وتلامذة الفكر الاقتصادي الحر، الذين عرفوا بـ (صبية شيكاغو).

وهؤلاء على الرغم من ادعاءاتهم بتوافق الرأسمالية والحرية، لم يتوانوا عن خدمة الديكتاتوريات، وعلى رأسها ديكتاتورية بينوشيه، تلك التي قتلت وأخفت عشرات الآلاف، وحطمت آمال الملايين من التشيليين الفقراء والعمال والمثقفين وخيرة شبابها باشتراكية ديمقراطية في سبعينيات القرن الماضي.

بدأ هذا المد التغييري اليساري في فنزويلا في ،1999 وامتد في السنوات التالية ليشمل أكثرية الدول، ومن بينها البرازيل ونيكاراغوا والإكوادور والسلفادور وبوليفيا والأرجنتين والأوروغواي والتشيلي وغيرها. فوجئ الأمريكيون بما يحدث، في ما سمّاه الرئيس الأمريكي مونرو، (حديقتهم الخلفية، فهم كانوا يعتقدون أن الديمقراطيات في أمريكا اللاتينية في عهد ما بعد الاتحاد السوفييتي ستشبك مصالحها معها، وستستمر في اتّباع النموذج النيوليبرالي، فإذا بهذا النموذج يلاقي هناك بداية نهايته، لتأتي الأزمة الرأسمالية العالمية في 2008 وتعلن انتهاءه فعلياً.

طبعاً، لا الولايات المتحدة ولا الرأسمالية المحلية ستقفان مكتوفتي الأيدي أمام هذه التحولات، وستحاولان عكسها كما تفعلان على نحو مكثف في فنزويلا، ولكن طرق المواجهة ستختلف باختلاف موازين القوى والنظرة الأيديولوجية في واشنطن.

المشهد الصراعي اليوم في ثلاثة بلدان كالتالي:

– كوبا: تسارعت وتيرة الانفتاح الأمريكي على كوبا، وذلك بسبب رؤية أوباما المختلفة واقتناعه بفشل السياسات الأمريكية على مدى الخمسين سنة الماضية في إسقاط النظام الكوبي، إذ لم يفلح الحصار الاقتصادي في كسر إرادة الشعب الكوبي، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي أدى إلى ما عرف بالفترة الخاصة، حين انهار الإنتاج والاستثمار والصناعة والتجارة الخارجية.

وكان التحول نحو اليسار في أمريكا اللاتينية، وخصوصاً في فنزويلا، دعماً للاقتصاد الكوبي، ورفعاً للعزلة السياسية التي عانتها خلال الحرب الباردة. اليوم اضطر أوباما إلى أن يلتقي ليس زعيماً (ديمقراطياً) لكوبا، بل التقى راوول كاسترو، أي الرجل (لمن لا يعرف ويظن أنه ورث زعامة أخيه) الذي كان من أوائل قادة الثورة في الهجوم على ثكنة المونكادا في ،1953 ومن أكثرهم شيوعية، إذ كان عضواً في الشبيبة الاشتراكية، معتنقاً الماركسية قبل أكثرية قادة الثورة. وقد عرف بتشدده منذ ذلك الحين.

تراجع الولايات المتحدة هو نصر كبير لكوبا، فجميع الإجراءات الأمريكية كانت دائماً من جانب واحد، إذ لم ترغب الثورة الكوبية يوماً بالانقطاع عن جارتها التي تبعد فقط نحو 90 ميلاً عنها.

فنزويلا: منذ شباط 2014 تحاول القوى اليمينية إسقاط النظام عبر استعمال العنف في الشارع. لا شك أن الرأسمال الفنزويلي يريد الخلاص من التهديد المسلَّط دائماً عليه، ويريد أيضاً استعادة مواقعه في السلطة السياسية، لكن الأرضية التي تسمح له بذلك هي الشكل الذي اتخذته (اشتراكية القرن الحادي والعشرين)، التي وإن أمَّمت بعض القطاعات الاقتصادية المهمة، وعلى رأسها النفط، إلا أنها سمحت للقطاع الخاص بالاستمرار حتى في القطاعين المالي والمصرفي، ولم يتعرض الأثرياء لأي مصادرة لأصولهم أو لثرواتهم، بل استمروا في السيطرة على أجزاء مهمة من الاقتصاد، ومن بينها الإعلام الذي يستخدم يومياً في التحريض المغرض على الحكومة والاشتراكية، كما أن الاشتراكية الفنزويلية اتخذت منحى توزيعياً، مستخدمة عائدات النفط الطارئة نتيجة التأميم ورفع الأتاوات وارتفاع أسعار النفط في أكبر سياسة اجتماعية شملت السكن والنقل والصحة والتعليم وغيرها، ما أخرج ملايين الفنزويليين من الفقر والإهمال والتهميش. كل هذا أتى على حساب إقامة اقتصاد اشتراكي منتج. عندما انخفضت أسعار النفط، تكشّفت أخطاء هذا النموذج، ودخلت البلاد في أزمة اقتصادية خانقة، تستفيد منها الطبقات البورجوازية في خلق القلاقل والاضطرابات، لكن أغلبية الشعب الفنزويلي، التي أحسّت للمرة الأولى في تاريخها، أنها تملك قدَرها ووطنها وثرواته، لن تسمح بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

– البرازيل: كانت البرازيل دائماً من أكثر البلدان التي تتمتع بسوء كبير في توزيع الدخل والثروة. وكان لوصول حزب العمال إلى السلطة في 2003 وقعٌ إيجابي على الاقتصاد البرازيلي، فزادت أعداد الطبقة الوسطى على نحو كبير، وانخفضت معدلات الفقر، وتخلصت البرازيل من عبء دينها الخارجي. كل هذا طبعاً لم يرُقْ الأوليغارشية الداخلية، التي استعملت فضيحة فساد لإطلاق تظاهرات خلال الأسابيع الماضية، وصلت إلى رفع لافتات تطلب من الجيش تنفيذ انقلاب عسكري! ويرتبط الكثير من المنظمين الذين يتغطون بلباس المجتمع المدني بمؤسسات يمينية متطرفة في الولايات المتحدة.

تحاول الطبقات الأوليغارشية والثرية عكس التحولات التي حصلت، مستغلة الديمقراطية التي تمسكت بها الأحزاب اليسارية، وعدم جذرية التوجهات الاشتراكية والحفاظ على القطاع الخاص والأسواق، بما يحفظ قوة هذه الطبقات ويفتح المجال أيضاً للفساد المالي، ولكن شعوب أمريكا اللاتينية نهضت وأغلقت عروقها، التي كانت مفتوحة منذ العهد الكولونيالي، ولن تسمح للمغامرين اليمينيين بأن يعيدوا 11 أيلول ،1973 إذ لن يكون هناك بينوشيه آخر، لأن النهضة عمت اليوم أمريكا اللاتينية كلها، كما حلم تشي غيفارا عندما ذهب إلى بوليفيا، التي أصبحت اليوم يحكمها الاشتراكيون والفلاحون والسكان الأصليون ممن أحبهم ومات من أجلهم.

 

عن (الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024