خريجو المعهد العالي رواد في مهنة التمثيل.. أم فن التمثيل؟!

مدهشةٌ حقاً الطاقات الإبداعية التي يتحلى بها شبابنا السوري، أمّا مآلات الأمور..؟!.

هناك من يرى أن الفن رسالة ووسيلة تعبير لغاية التأثير والتغيير، وهناك من يعتبرهُ مهنة كبقية المهن يعيش منها ويتكسب ما يرفه به حياته. فهل يجوز أن نعامل الفنان الرسولي كما نعامل ممتهن الفن؟ وهل يمكن للفن أن يكون محض مهنة وأداة لمكاسب اجتماعية ومادية شخصية؟ أليس الفن تعبيراً صادقاً؟ أم أنه محض مهنة محكومة بفرص الأجر المرتفع والشهرة المتزايدة؟

لطالما تواردت إلى ذهني كثير من هذه الأسئلة، ورغم أن هناك كثيراً من البرامج التلفزيونية والمقالات الصحفية تتناول الفن والفنانين إلا أنها ذات طابع (إعلاني) تخبر عن جديد الفنان وما شابه، وذات طابع (احتفائي) تحتفي بالفنان وأعماله تاركة ملف علاقة الفن بالمجتمع لانطباعات عابرة باستثناء بعض البرامج التي تقدمها (قناة سورية دراما).

هناك ظواهر كثيرة تحتاج إلى مناقشة، فماذا عن تزايد الأعمال الدرامية ذات الطابع التجاري تلك التي تتسم بالسطحية وتجترّ أفكاراً وظواهر اجتماعية بعينها؟ وكيف يمكن لفنانين كبار أن ينخرطوا في أعمال كهذه تضيّع وقت المشاهد السوري في مرحلة هو مطالب بأن يكون فيها ذاتاً يقظة؟! وماذا عن الأعمال التلفزيونية التي تندرج في نطاق الترفيه والتهريج، المتخمة بالابتذال؟ هل الممثل السوري يفتقد إلى المعيارية وهل ينظر إلى خانة الأجر في عقد العمل قبل أن يقرأ النص؟ كيف نراه إذاً في عمل هادف وعميق يضطلع بالنقد الاجتماعي ورفد الوعي الجمعي، ثم نراه في عمل تلفزيوني مبتذل هو محض هدر للمال والوقت؟! ومن جهة أخرى ألا يعاني الفنان من غلاء المعيشة مثل بقية الناس..؟ وهل من المعقول أن يرفض كل العروض حتى يأتيه نصٌّ هادف؟ هل يجوز للمثل أن ينظر ويقيّم أداءه لدوره فقط أم أن التفريد مهما كان متقناً فهو يفقد قيمتهُ إن هو كان وسط أوركسترا فاشلة هابطة المستوى؟

وهل الفن لأجل الفن مقبولٌ في هذه المرحلة العصيبة، أم أن النقد الاجتماعي وتسليط الضوء على الحالات الإنسانية المُلحة هو واجب كل من يدّعي أنه يمتّ إلى الفن بصلة؟

إنَّ أحب عروض التمثيل إلى قلبي هي تلك التي شاهدتها على مسارح المعهد العالي للفنون وسط العاصمة دمشق، فجميعها كانت عروضاً متقنة هادفة تمتاز بالوحدة العضوية والتناغم بين أفراد فريق العمل. ولا عجب أن يعود ممثلون كبار من أمثال بسام كوسا وفايز قزق وغسان مسعود.. وغيرهم لممارسة نشاطهم الفني ورسالتهم في حرم المعهد العالي الذي منحني الدهشة والمتعة في مشاهدة شبان وشابات ينتزعون الإعجاب وهم يوظفون مهاراتهم في أداء شخصيات دُرست اللازمات الحركية واللفظية التي تساعدنا في التعرف إليها وسبر أغوارها وصُمّمت لها برمجة لغوية عصبية متكاملة.. يوظفون مهاراتهم تلك في سبيل حضّ الذات الإنسانية على التسامي، إضافة إلى التعبير عن قضايا البسطاء والمستضعفين وتعرية الظواهر السلبية التي تدفعنا خارج السياق الحضاري الذي كان في يومٍ ما عاموداً فقرياً في جسد الوطن السوري.

ومن هؤلاء الممثلين الشباب المتألقين (هيثم مسوح – قصي ممدوح عبدو – بلال مارتيني – محمد قصاب – سهير صالح – مروى الأطرش – لمى بدور…). ولعل ما نريدهُ من خريجي المعهد العالي ومن المتفوقين منهم خصوصاً (نجوم المستقبل) وغيرهم من الممثلين الشباب الذين لم ينجرفوا بعد نحو المشاركة في أعمالٍ تشوش العقل الجمعي أو تستثير الغرائز عوضاً عن الارتقاء به في هذه المرحلة الحساسة.. نريد منهم أن يكونوا فنانين بحقّ، وأن يدركوا الدور الريادي المنوط بالفنان، فكما يقول تروتسكي: (تطور الفنون، هو مؤشر ارتفاع حيوية ودلالة حقبة بأكملها) فيما يخص شعباً ما. ونريد منهم أن يبتعدوا عن الأعمال الدرامية المباشرة حد السطحية ذلك أن الفن كما يقول بابلو بيكاسو (ليس الحقيقة لكنه الكذبة التي تجعلنا ندرك الحقيقة).

إننا نباهي بالفنانين الحقيقيين دون اكتراث لأعمارهم أو كم ظهورهم التلفزيوني، فلا تستعجلوا الشهرة أو تحصيل الأجور المرتفعة، وهاكم صوركم نزين بها صحيفتنا العريقة نباهي بكم متمنّين لكم دوام الإبداع والتميّز.

العدد 1105 - 01/5/2024