المثقفون والتحديات

ليس من المعتقد على الإطلاق، ولا من قبيل التكهن والظن، بل من عمق الواقع والوقائع، التي تجري فوق تراب منطقتنا.. فوق تراب وطن تتناهبه الأحداث والخطوب، أن الفئة، التي من المفترض أن تكون هي الأكثر حضوراً في ساحة الحدث الراهن، وأكثر فاعلية ونضالاً وحيوية، الفئة المثقفة الواعية، الفئة التي تساهم بتوعية الجماهير، والأخذ بها نحو المستقبل المضيء، والأكثر أماناً واطمئناناً، الفئة، التي تملك العلم، والإعلام، والخبرة المعرفية والقيمية الرائدة، هذه الفئة من مثقفي الأمة، ورواد الحضارة والقيم، والسلوكيات العالية، هي الفئة الأكثر غياباً اليوم عن ساحة الفعل، والأكثر بعداً عما يجري على أرض استنزفتها الوقائع الدامية لدرجة المستحيل، وتلاطمت فيها أمواج الشر، حتى بات اليقين أكثر شكاً من الظنون كافة: بأن ثمة عتمة قاتمة تطغى على الخير والنور، (ظلمات بعضها فوق بعض) بحيث لأجيال قادمة وطويلة سيعم الظلام ويطغى، ولا مجال في المخيلة لقطرة واحدة من الضوء تنفذ من خلال العتمة القاتمة لتهب النفوس بعض الأمان والأمل بأن ثمة منفذاً للحياة، هو في مرحلة ما آتٍ، ليصنع فجراً آخر لأجيال الحياة القادمة أكثر إشراقاً، وطمأنينة، وسكينة، عما هو قائم الآن الذي يأخذ بالألباب إلى الجنون، ويذهب بالعقول إلى مدائن العزلة والغياب، ويجعل من الظنون حقائق دامغة، وهي التي تنبئ بتفاعلات ما جرى ويجري: أننا على حافة هاوية لا مخرج منها لا الآن، ولا لعقود قادمة، وأن ما يجري هو أعظم خطر مرّ على الأمة عبر تاريخها الطويل: ماضياً وحاضراً ولمستقبل غامض ومجهول وبعيد. وأن لسان الدهشة المعقود على الصمت والجرح، واللامعقول، لو نطقت الحجارة لنطق بما يدمي ويوجع ويصدم بمرارة أن في الحال التي أُلنا إليها من خراب، ودمار، وتشتت، وضياع، وغياب، نحن في الشق الأكبر منها، فإننا المسؤولون عن فداحة ما حصل ويحصل، وأننا نتحمل تلك المسؤولية، بضراوة العزلة التي عاشها، ويعيشها المثقفون خارج إطار الأحداث والوقائع الجارية، وأن الدور الصفر الذي تراوح من خلاله الطلائع المثقفة في طيات الوحشة والظلم والغياب: لعلنا نوقن أننا في المرحلة التي تقول: يوم تدهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن؟! أمام هذا كله، ماذا فعل المثقفون؟! وماذا يفعلون؟ وماذا سيفعلون؟! أمام طغيان الشر على الخير، والفساد على القيم، والعتمة على الضياء، والمعاصي على الأخلاق؟! مثقفو العزلة غابوا عن ساحة الفعل لدرجة المستحيل، ولاذوا بالغياب لدرجة الفاجعة، وانزووا في الظلمة لدرجة النسيان، إلا أصواتاً قليلة رائعة، وفاعلة، ومؤمنة بتحتمية النصر في النهاية، ولكن تلك الأصوات هي بمثابة العاصفة التي ما تزال طي الغيب، والغيث المحتمل في زمن: قادم ومجهول، والأمل المعقود على شاهدات الماضي من أبطال، غابوا عن الحياة، وعاشوا في الذاكرة للأبد؟! فما بال الواقع لا يتحفنا: بصلاح دين جديد، وبخالد بن وليد جديد، وبطارق بن زياد جديد، ومعتصم جديد، إذا صاحت به امرأة: وامعتصماه! لبى وهب من فوره لنجدتها! امرأة تصيح فتلبّى، والقدس تصيح والملايين موتى، والأقصى يصيح والمليارات ذليلة ذهب بها الهوان إلى ما هو أقسى من الموت، ومثقفو الأمة في هوان ما بعده هوان، وفي غياب ما بعده غياب.

لعب المثقفون وذوو الرأي والحكمة والعلماء أدواراً مهمة في التاريخ، فقد أسسوا وشادوا صروح الفكر، والعلم، والأخلاق والقيم، واعتبروا الأخلاق والقيم والسلوك دعامات المجتمعات على امتداد أقطار العروبة والإسلام، وجعلوا تلك المتداولات القيمية الجذور الراسخة والقوة الحافظة للمجتمع والتاريخ والأجيال، قيم وسلوكيات وأخلاقيات لا تقف عند حدود السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، بل تذهب معايير مرافقة ومرادفة لرؤى الشعراء والكتاب الثوريين، وخاصة المجتمع وعوامه، ولأجيال الحياة كافة، ولكن في الحقيقة تلك الدعامات كانت تخص بالأساس الأول العلماء والأدباء والمفكرين لأنهم طليعة المجتمع، وقدوة الأجيال، ومحفزو الأمة للعلياء والمجد والخلود!

لذا، أصيبت الأمة والأوطان بالخيبة لتراجع مفكري الأمة، وعلمائها، وأدبائها وتقهقهرهم إلى الوراء الغاصّ بالوحشة والهامشية شبه المطلقة، من هنا كان من تبعات ما يجري ذلك الغياب الحزين للطليعة الواعية المثقفة، وغياب الوعي، وتزاحم الأضداد في أجيال لا علاقة لها بالتاريخ والثقافة وأدب الحياة، أجيال تعتمد في شؤونها على كل مستورد مخرب ومدمر، وعلى رؤى تنحاز لكل ما هو غربي واستهلاكي، وآني، وأما ما ينفع الناس فقد تلاشى تحت وطأة أمواج الزبد، والترهات، وفوضى عامة اجتاحت مجتمعاتنا باسم: الفوضى الخلاقة وما هي في حقيقتها إلا فوضى هدامة هدمت كل شيء، وخربت كل شيء، وذهبت بكل ما هو مثالي وجميل في أمة قلدت الآخرين بالماديات والشبهات، والحسيات المارقة، وتخلت عن قيمها، وأخلاقها، وسلوكياتها، وآدابها، ومضت إلى آخر الهوان كأن مربي الأجيال غادروا، والعلماء غادروا، والشعراء غادروا، والقيم غادرت، والأخلاق غادرت رغم التغني بالأخلاق والتغني بالمجد، والرفعة والسمو فأين نحن الآن من:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا؟!

ورغم كل شيء فلنعتبر ما حدث كان غيمة سوداء عابرة تمر على الأمة والوطن ثم تمضي عابرة، وتذهب دهراً من الزمان امتحاناً للأمة والأوطان، ونذهب مع القيمة الخالدة فينا: الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة، كما نتمثل بالقول الخالد: كنتم خير أمة أخرجت للناس، وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق!

 إذاً، نحن خير أمة شاء لها القدر أن تكون ذلك، وتستمر عليه للأبد.. وإتمام الأخلاق معناه أن هذه الأمة هي أمة الأخلاق ومكارمها من قبل الإسلام على سكة العرب والعروبة، وتستمر في ذلك ما شاء الله لها ذلك، والمشيئة تذهب للأزل في هذا المنحى، ونحن أمة الأخلاق والأدب والحضارة، والمعايير الخالدة، وعلينا أن نعيدها إلى المدرسة الكبرى بيوتنا، ثم مدارسنا وجامعاتنا، ومجتمعاتنا، وسلوكياتنا، عندئذ نعود خير أمة أخرجت للناس! ومن منطلق آخر علينا الآن إعادة تحفيز الهمم للتعمير والبناء وخاصة بناء الرجال والأجيال، وعلينا العودة إلى التربية الأخلاقية في مجتمعاتنا وأمتنا، وأوطاننا، وأن نعيد سكة قطارات حياتنا إلى مسارها الصحيح، عندئذ، نصل إلى مبتغانا وغاياتنا كما شاء القدر أن نحيا على ذلك، ونموت على ذلك، ونبعث عليه!

 أمام مثقفي الأمة تحديات هائلة الآن، والصعود يبدأ بخطوة، والثقة كاملة بأن خطوة بدأت الآن تصل إلى أهدافها، وغاياتها المرجوة، فللجواد كبوة ثم ينهض، وللقيم جفوة ثم تعود، وللأمة ما قدر الله لها أن تكون!

العدد 1105 - 01/5/2024