سأرسم

اللون يصادر الرغبة، يُتلف ما بقي من البياض، ويؤسس لخلفيّة مستورة بتدرّجاته. اللون يسحب أحلام الطفولة من الذاكرة، ينقّيها، يعيد ترتيبها بما يناسب انفعال الفصول حين تتمرد فتأتي بغير أوانها، هو العنصر المراوغ كما نشتهي أحياناً، وبعكس مانريد أحياناً أخرى. عنصر لا يرضح لإرادتنا، ولا يجوز لنا أن نحاول إخضاعه، هو المتأبّي والمتمنّع عن التدجين حين نحاول أن نكون قساة، حينذاك تخرج اللوحة متمرّدة على كل رغباتنا. تفاجئنا بشذوذها، فنعمد إلى تشويهها أكثر، لا رغبة في الانتقام، وإنما زعماً بأننا نُصلح ما شوّهه اللون بتمرّده.

حين نحاول أن نرسم تتملّكنا دهشة غريبة، نطير معها إلى فضاءات تجعلنا غير ما نحن، وغير كل الكائنات التي تشبهنا، والتي لا تشبهنا، نصير أشبه بغيوم لزجة تبعثرها رياح غير مسالمة، فتكوّرها حيناً، وتبسطها حيناً آخر. نحاول الاقتراب من الأرض، فيرفعنا صراخ مجهول إلى فوق، غير عابئ برغباتنا، تماماً كلوحة متمرّدة. وحين ننهزم فنتقاعس عن الحلم يسحبنا الواقع إلى صخوره، فنتحطّم. وكي لا أصير إلى هذه الحالة سأرسم، سأحاول أن أرسم.

كيف لي أن أرسم (خبزاً حافياً)؟ كيف أبدأ بتعرية الأشياء من لباسها، من قشورها؟ تفاجئني الألوان وقد شكّلت أمامي أرغفة مسنّنة الحوافّ، وغيوماً تشبه العجين، ورياحاً تشبه صراخ أبي حين كنت (أتشيطن). أما قلت لكم إن اللون يسحب أحلام الطفولة، وحبال الذاكرة، ليؤسس لعالم غريب؟

كان رجال الدرك، وربّما ما يزالون، يسوقون الناس أمامهم كما تُساق الخراف. تمتلئ اللوحة برجال الدرك، وبالخراف، الناسِ الطيبين. رجال بقرون وأذيال طويلة، وخراف كأحلام طريّة، أرسمها بالأبيض والأخضر، أتمنى أن أبدّل أظلافها بمخالب، وأسنانها بأنياب، وقرونها بسيوف، يفاجئني اللون على غير ما أشتهي، فيُبقيها كما هي، مخلوقة لتنقاد.

سأرسم مدرستنا القديمة، ذات الغرفة الواحدة، كقصر سلطان حرّ، أزيّن جدرانها بضفائر فتيات عشقتهن ذات يوم، أجمع في باحتها مُدرسيَّ القدامى جميعهم، سأرسم المدير على شكل مدفأة، أملؤها بالحطب وأشعل النار. سأرسم أصدقاء أبي، وصديقات أمي، نجوماً في السماء. أنظر إلى فوق، وأصلّي راجياً أن يؤجّل الشتاء موعده، أغتبط بمرأى النجوم، ولا أضطر لإشعال المدفأة.

تسخر الألوان من تناقضاتي، فتسلمني لإرادتها، وتبدأ اللوحة بالتشكّل على عكس ما أريد. تعود الباحة قصراً، والتمساح زعيماً والأفعى أنثى جميلة، تعود النجوم آباء وأمهات. يعود الخبز مرتدياً سمرته المشتهاة، وتعود الرياح صراخ أب قاس وحنون. كل الأشياء تعود إلى طبيعتها، أحزن، بل يملؤني الحزن، أترك اللوحة ترسم ذاتها، أغسل يديّ ووجهي، أرتدي أحلامي الواسعة، وأنام.

العدد 1104 - 24/4/2024