في ضيعة الحياة… ثمّة موت!

أتاني صوته الغريب: (قطعنا رأسه يا كافرة)!

لابدّ أنه كعادته يمازحني. الجبهات مشتعلة تحرقُ الصدور، لا يُداعب القلبُ الموجوع. هل قتلوه حقاً ياالله؟ قسوة النبرات البعيدة لا تكذب.

بلا سقفٍ يطلُّ المكان على الغيم. أريكته الصلدة، تستلُّ من دماغي طنينَ هلوسته. الأغصان تتماوج فوقَ الأجساد المشققة. بعناقيدِ كرمةٍ أحدق، أصغي لورقٍ يتهاوى، لخبايا النضوج. لا تزال الحرب تراوغ فجر الضيعة، تدّعي التزاماً بهدنة مؤقتة. هدوءٌ خلاب يسفكُ النوم، يمحو من مقلتي الجافة سكونها.

– هيا نخرج.

لم يفقده الموتُ الأخير صوته.

– جسدكَ دافئ. المقيمةُ دهراً لم أستطع. كيف تفعل!

لكَ نبضُ القيامة. لن يهاب الناس سحنتكَ الباهتة ؟ وجوههم أكثر شحوباً. مصابون بحمى شوقٍ أودت بكَ هنا، هي ذاتها تنهشكَ لتعود الآن.

أما أنا فأنين وحدتي أشربني غيابكَ. مضغه حتى الثمالةِ قلبي. هشاشةً أورثني، هزيمة المؤمن أشبعني. انظر إليّ! أحتاج إلى أنفاسَ عشرينَ آلهة لروحٍ جديدة، أياديهن الأربعون تشكّل من عظمٍ مبعثرٍ تشوهاً أقل. نبضاً ينبتُ في هوة الصدر. علينا أن نفهم لماذا تغادر عرشها الآلهةُ تباعاً، تسكنُ الجبال تلملمُ التوت البري.

في حفل تكريم أسر الشهداء قابلتها: أمَّك، لا تحزن، أكثر من سنةٍ، وفاةً يصيرغيابك في رسمي الوثائق. غاضبة ضجرة كانت، رفضت المعونات والهدايا. ما يهمها عن رجوعك خبرٌ. إنها نعمة الطوافِ حول صناديق بلا راقدين، عيناها اللامعتان أملاً لا تبارحان الصور المصطفة، الزوايا المزنرة بأمهات مفجوعات.

يبتلع الضباب الوادي البعيد، أحراجُ البطم والبلوط صامدة بوجه الخريف متعالية، والجوز أصفر الورقِ يتناثر، يحترقُ بسمرة الدرب الضيقة، يتكسر ويتلاشى. يشتاقك الخريف، تكورت مياسم الجوري وتدلت ثمارها أرجوانية الحبات، في غفلة الزمن امتدت حول البوابة الحجرية هناك حيث طفولتنا عُلّقت. مئات الأزرار تزهر وتذبل، تبقَى شواهدها المكتظة بغيابنا.

 لو نطق جذع السنديانة لباح بسرّ شرخه.. عن الفأل السيئ تجلبهُ وشايةُ القريب تقوم بذبحهم – الأبناءَ – تحكي عن مهاجرين عائدين في أيلول.

عينُ الحياة، صغيرةُ الميمنة والميسرةِ الضيعةُ، توقف منذ دهر تنافسُ الجبلين. مضى زمن الزعامات وطردت البيوتُ ماضيها المجيد. سكنتْ الوجع والقادم المنهوب. لم يفصلوا رأسك عن الجسد كما أعلنوا. سيوفهم عاجزة كأمنياتهم. كيأسٍ محبطٍ في دَرجِ بيتكم الترابي، مهشماً بقبضة أمّ تنتظر.

لن تتعرف عليهم، لا تعدْ. أخرسوا الأغنيات كلها. فيروزها، فريدها والعتابا. يصغون لهشيم الأسرار، لنار الإشاعة، لهسيس العائدين الراحلين. الرصاصُ يطلُّ من أسفل الطريق يقيم مجالس العزاء. يتهامسون: تأخر دور ضيافتنا، غداً يكون، ربما بعده..!

لا تعدْ -عين الحياة – والموتُ قابع في خواتم الصبايا، في ضحكاتهن الخامدة، بأبيض الفساتين المعلقة، في مهدٍ طفلٍ لا يولد. ابقَ هنا. دع قيامتكَ ليوم يأتيك فيه، الأمواتُ المشغولون بأحياءِ صدورهم.

بكَ أمُّ تهذي. أمهلها تكمل طقوس انتظارك. تشعلُ بخورها وتوزع النذور. دعها تتجرع سمَّ أملها حنيناً مكتوماً. لا تبعث بعودتك حياتها، اتركها بموتها تحياك. بسكينةٍ تطفئ صوتها، اسمك تشعله. تغلق بثوبها قبركَ الخاوي، بأبديِّ الابتسامة تمضي إليك.

العدد 1104 - 24/4/2024