المعارضة السورية والفرص الضائعة!

لابد من العودة باستمرار، إلى التجارب التاريخية.. هذا أمر على  درجة عالية  من الأهمية، والأحداث الجارية على الساحة السورية اليوم تؤكد هذه الموضوعة. لقد سار الحراك السياسي والاجتماعي في البلاد دون الأخذ بعين الاعتبار التجربة التاريخية الإنسانية المتراكمة عبر القرون، والتي كان بالإمكان الاستفادة منها والتعلم من دروسها وعبَرها الغنية، وكان يمكن لكل ذلك أن يجنّبنا الكثير من الأخطاء والإخفاقات التي حدثت. فالتاريخ مليء بالعبر وبالأحداث المتشابهة. إنه التاريخ الذي قدّم للبشرية الكثير من التجارب والكثير من الغنى المجتمعي.

إن النضال الاجتماعي والسياسي، هو نضال مبنيّ على الدراسة الواقعية  للظروف القائمة عبر معرفة دقيقة لمصالح مختلف الفئات الاجتماعية، وبالتالي معرفة توجهاتها السياسية، وهو أيضاً، معرفة للظروف الخارجية المحيطة وقدرة هذه الظروف على التاثير في منحى هذه التوجهات السياسية الداخلية، ومن دون دراسة ذلك يكون النضال السياسي غوغائياً، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى نكسات خطيرة وخيبات أمل مريرة.

إن الكثير من النُّخب السياسية في البلاد لم تستفد من هذه  التجربة التاريخية، فقد عبّرت عن هشاشتها الشديدة وعدم معرفتها للواقع بصورة حقيقية، مما أدى ويؤدي إلى خيبات وإجهاضات كبيرة. وهذا الأمر يعكس مستوى النضج المجتمعي الذي لم يكن جاهزاً لتغيير ديمقراطي عميق في البلاد. والدليل على ذلك، هو مستوى النخب السياسية في البلاد التي عبّرت بصورة ساطعة عن عدم هذا النضج. وهذا يذكّرنا بانخراط روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى بشكل واسع، رغم أنها لم تكن جاهزة لمثل تلك الحرب، فقد حلّل لينين الوضع الناشئ آنذاك بدقة صائبة، واعتبر أن الأسباب العميقة التي دفعت روسيا القيصرية للانخراط في هذه الحرب، يعود أولاً إلى أزمة النظام القيصري القائم، والهروب إلى الأمام، تحت شعارات الوطن ومصلحة الوطن والدفاع عن الوطن…. وذلك لإعاقة الانفجار الاجتماعي الذي كان يمكن أن يحدث في روسيا آنذاك. هذا إضافة إلى النزعة الاستعمارية لروسيا التي ظنّت أن بإمكانها أن تحصل على جزء من كعكة تقسيم العالم بين الدول الاستعمارية. وانطلاقاً من هذا التحليل اتخذ لينين الموقف الذي يؤكد أن لا مصلحة للشعب الروسي، بفئاته الغالبة، في هذه الحرب مهما كانت الشعارات التي رُفعت من أجل خوضها. واعتبر أيضاً، أن الشعب، نتيجة ذلك، وفي سياق مجرى هذه الحرب، سيعرف مدى خيانة القيصرية لمصالحه.. وبالتالي ستنشأ، نتيجة ذلك، حالة ثورية يمكن أن تزيح القيصرية كنظام حكم، وتمهّد الطريق لتطور إيجابي لاحق في البلاد، في الوقت الذي اتخذت جميع أحزاب روسيا القيصرية آنذاك مواقف معاكسة لموقف لينين.

لقد جاء التطور اللاحق في روسيا في سياق الحرب متوافقاً مع رأي لينين الذي كان قد انبثق من تحليل عميق للواقع الروسي ولمصالح مختلف فئاته الاجتماعية، الأمر الذي دفع بلينين إلى موقع الصدارة في الحياة السياسية في البلاد نتيجة صحة مواقفه رغم الضريبة الكبيرة التي دفعها حزبه وقتذاك، واتُّهم بالخيانة ومعاداة الشعب الروسي. ليس المهم، في ظرف ما، الحصول على أكثرية انطلاقاً من العواطف. بل المهم أن يكون الاستنتاج صائباً، لأن تطور الأحداث سيصبّ في  الاتجاه الأكثر دقة، وبهذا ستتحول الأقلية إلى أكثرية.. فالاستنتاج الصائب هو الذي يساعد الناس تدريجياً على اتخاذ موقف حقيقي. أما الانسياق مع الهياج الانفعالي، فهذا يساعد على تضليل الناس وعلى تأخير يقظتها الحقيقية.

إن الاحتجاج الجماهيري الذي جرى في سورية، هو احتجاج مشروع. إنه يعبّر عن مشاعر الناس تجاه الظلم الاجتماعي والسياسي. ولكن دور النخب السياسية كان دوراً إجهاضياً، لأن هذه الحركة الاحتجاجية لم يكن لها طابع جذري، وخصوصاً فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي المطلوب. لقد حاولت معظم هذه النخب السياسية أن تركب موجة الاحتجاجات من أجل قيادتها وإيهامها بإمكانية إحداث مثل ذلك الانعطاف السياسي الجذري دون أن تكلّف نفسها عناء البحث العميق في الواقع الاجتماعي وفئاته الاجتماعية ومصالحها المختلفة، وارتباط كل ذلك بالصراع الجاري عالمياً. وكانت النتيجة إجهاض الحراك الديمقراطي المطلوب وإفراغه من محتواه، وخيبات أمل مريرة لدى جماهير واسعة فضَّلت الانسحاب، في الوقت الذي تقدمت فيه إلى الأمام قوى ظلامية ليس لها علاقة بالفكر الديمقراطي. كل ذلك أدى إلى تدمير مجتمعي خطير جداً ليس له أي علاقة بمستقبل زاهر للشعب السوري.

هناك في التاريخ تجارب كثيرة كان يمكن، لو جرى حل صائب للتناقضات، أن تؤدي إلى تطورات تقدمية عاصفة. ولكن هذه الفرص قد ضاعت نتيجة التخلف المعرفي والسياسي للقوى المجتمعية، وعدم نضج النخب السياسية القادرة على الاستفادة من هذه الفرص. هذا ما حدث في بلادنا مع الأسف الشديد. لقد ضيَّعت هذه النخب فرصاً كبيرة كان يمكن لها لو عولجت بطريقة حقيقية أن تضع سورية على سكّة التطور الديمقراطي اللاحق.

العدد 1105 - 01/5/2024