لا إعلام حقيقي دون تعددية حزبية حقيقية وفاعلة

من المؤكّد أنّ من يمضي عمره في كتابة التحقيقات الصحفية، وتغطية شتى القضايا الاجتماعية سيخضع للتهديد، وربما إلى الإيذاء، فكل ظاهرة اجتماعية منحرفة يقبع وراءها عددٌ من المُنتفعين الذين ساهموا في تشكيلها والحفاظ عليها، وأيُّ لص سيخنق الديك قبل سرقة البيض كي لا يفضحه، فما بالكم بلصوص الملايين من أرباب منظومات الفساد وسدنته في بلادنا العربية..؟

الصحافة قد تكون سلطة رابعة، وقد تكون مهنة (أكل عيش) كغيرها، وذلك رهينٌ بمقدار حرية التعبير السائدة في البلاد، ووعي وثقافة الصحفي نفسه، وإذا ما أردنا الحديث عن الصحافة في العديد من بلدان الوطن العربي، فلطالما شكّلت الصحف التابع للأحزاب الجسد الرئيسي والمؤسسات الأضخم فيما يخص المنشورات الصحفية.
والأحزاب العربية تنقسم إلى أحزاب متغوّلة عملاقة، وأحزاب مُقزَّمة وكرتونية، وبهذه التوليفة لا يمكن التعويل على صحافة الأحزاب كثيراً، ذلك أن الحزب الصغير يخاف من قمع الحزب الكبير،وحتى إن امتلك الشجاعة لا يمتلك الموارد لنشر صحفه.
والحزب المتعملق من خلال الهيمنة على موارد البلاد يُجنّد من يدافع عن أيديولوجيته، والعاملين في صحفه لا يتجاوزون كونهم موظفين يحرسون الأيديولوجيا التي يريد الحزب (الغول) الذي أكل ويأكل إخوته (الأحزاب الأصغر)،
أن يُعلّب الشعب فيها، ولذلك نجد مقالات تُشكّل أسماء الحيوانات والألفاظ التي تُعبّر عن أحكام، التي تنمُّ عن الغضب والتي لا يمكن أن تكون جزءً من عملية تحليلية،
مثل(أذناب الغرب، أصحاب الكروش والعروش ملوك النفط، كلاب قوادون، ملوك العُهر والبترو دولار، الصهيوخليجي..) أومن جهة أخرى (الشبيحة، العفّيشة، المليشيات الطائفية، الرعاع.. إلخ).

والسؤال هنا، هل كان يوماً التسابق في رصف الألفاظ القبيحة والشتائم أو اجترار مثل تلك العبارات يمتُّ إلى مهنة الصحافة بصلة؟ وإذا افترضنا أنها حقائق معروفة كما يزعم قائلوها، لماذا نقول ونكرر ما يعرفه الناس جميعاً؟ أليس جوهر مهنة الصحافة والإعلام هو نقل المعلومة أو الخبر وإعمال العقل فيه وتحليله وتَلمّس أبعاده ودواعيه.. إلخ
وليس تناقل أحكام أو اجترار بديهيات؟ أليس جوهر مهنة الصحافة مرتبط بالحدث؟ فلماذا لا نقرأ سوى بضعة عبارات عن الحدث مسبوقة ومتبوعة ويتخللها الكثير من العبارات التوصيفية لشخوص الحدث؟!
فلا نعرف عن الحدث بقدر ما نعرف عن من تزعم الجهة الصحفية أنهم وراءه، حيث يقال عن فلان أنه لوطي وعن علتان أن جده الخامس من أصل إسرائيلي، مع العلم أن الكيان الصهيوني لم يكن قائماً آن ذاك، وأطنان من العبارات التي لا تمت إلى الحدث الذي يطرحه المقال بصلة.

ألا يقتضي الاحتراف والمهنية العالية التجرد عند نقل الخبر؟ لماذا إذاً يغلب الأسلوب العاطفي التهجمي على جُل ما نقرأه في الصحافة العربية اليوم؟ إلى متى ستبقى صحفنا تغص بالردح والعواء الأيديولوجي للكثير من الأحزاب التي أفلست واهترأت؟!

إننا لا نمتلك إعلاماً بقدر ما نمتلك إعلاناً، أحزاب ومسائيل يعلنون عن أنفسهم وأنشطتهم، افتتح، دشن، استقبل، ودع، أقامت وزارة كذا فعالية كذا بمناسبة كذا وتكلّلت الفعالية بالنجاح وعاشوا في سبات ونبات، إلى آخر الديباجة، في حين أنّ الواقع الذي نعيشه مخزي على أكثر من صعيد.

ولكن قبل أن نتساءل هل الإعلام في بلادنا العربية يشكل فعلاً سلطة رابعة، من الحريِّ بنا أن نسأل: هل هناك احترام في بلداننا العربية لمبدأ فصل السلطات الثلاث التي تسبق هذه السلطة الرابعة..؟ وهل يمكن أن تتشكل سلطة رابعة فاعلة، إن كانت العلاقة مشوبة بين السلطات الثلاث الرئيسية التي تسبقها؟!

العدد 1105 - 01/5/2024