ذلك الياسمين الدمشقي وأحزان التراب

على امتداد بيوت دمشق، وحاراتها، ونوافيرها، وشبابيكها، تلك المسكونة بالورد الجوري والكبّاد والياسمين، وعلى امتداد أفقها الصاعد بحَوْرها، وصفصافها إلى أبعد ما تصل إليه الريح، ويشرد فوق ضفافه الغمام، ويتهادى عبر أعاليه هديل الحمام الأموي، بترانيمه العذبة الحزينة، وتلك القباب التي يجاورها نسيم بردى، وظلال العابرين من عشاق المجد والتاريخ والذكريات، وأحزان التراب، وهو يحنو على دم الأحبة جميعهم، يقف حائراً موجعاً أرقاً على قطرات تتوهج حمراء،  قانية، كنا نعدّها للجولان وفلسطين، فإذا بنا نسفحها فوق تراب الأرض التي تقف حائرة ملتاعة وهي تغيب في أنين صدى النشيد المشبع بضراوة الآه، وهو يردد عبر زمان الوجع المتوارث فينا على امتداد الزمان:

سلامٌ من صبا بردى أرقُّ

ودمعٌ لا يُكفكَفُ يا دمشقُ

سَلي مَنْ راعَ غيدَكِ بعدَ وَهْنٍ

أبيْنَ فؤادهِ، والصخر فَرْقُ

جزاكم ذو الجلالِ بنو دمشقٍ

وعزُّ الشرقِ أوّلُهُ دمشقُ!

تلك هي دمشق الشام.. السمراء، الفاتنة، البهية، المسكونة بجرحها العربي، المهمومة بفلسطين، المشغولة بالقضايا، والمنايا والرزايا التي تحيط بالوطن والأمة على امتداد تراب العرب، هي الآن، وكل آن.. تبسط جناحيها على امتداد مشرقها، ومغربها، لتجعل تحت طي الجناحين: خفق وجدانها، ونبض صدرها للذين تحبهم في العابرين عشاقاً، وموجعين، على أنين وجدهم وحزنهم، ومولعين أفئدة بترابها الندي المشبع بعبق الدم والياسمين، وآهة عتابها على أحبابها، يعبرونها مغادرين، ثم ها هم بصمت يرحلون إلى الغياب الحزين بتساؤلاتهم الجارحة: أيّها الحكماء.. أيها المثقفون، أيها الموجعون المولعون بالشام، وعروبة الأرض التي أنجبتكم من رحم عزتها وجنون عشقها، أين أنتم؟! الآن دوركم، والآن حضوركم، والآن غيرتكم على الأرض التي حملتم قدسية اسمها العظيم! أين أنتم أيها الحاضرون الغائبون!؟ فلا التراب ترابكم، ولا الأرض أرضكم، ولا الجراح تعنيكم في شيء!

آن الأوان لحكمة الحكماء أن تفعل فعلها، وللمثقفين أن يكونوا الطليعة التي تتحرك باتجاه لملمة الجراح، والتكاتف على إعادة الأمور إلى مسارها الصحيح، وإعادة اللحمة بين الوطن، وأحبابه جميعهـــــــــم، والتراب الموجـــــع على دمٍ الجولانُ وفلسطـــــينُ أولى به. وآن الأوان للأجيـــــــال أن نصحّح نظرة عتابها علينا، وأن نجعلهــــــــــا أكثر تفاؤلاً بنا واعتزازاً بما نشيِّد لها ونبني، لا أن تكون في أنين عيونها الصامتة الفزع الأكبر من عتابها الجارح الحزين؟!

آن للكبَّاد أن يصحو على صباح آخر أكثر وضوحاً بما نحلم، وللياسمين أن يعيد ألق الضياء الذي نتمناه، وللدرب أن يعيد تصحيح المسار للجولان وفلسطين، ولا شيء غير هذا.. في زمن بتنا نحلم فيه:

بضحكة ممزوجة بدمعة فرح،

ولحظة تحت ظل حورة وسنديانة ودالية،

نشعر عندئذ أننا لم نزل في أمم الأرض خير الأمم،

وفي وجدنا خير من أحبّ الأرض، وعشقها باسمها العظيم،

وفي ساحات الكبر تلك الهامات الباسقة كالرماح

وفي تآلفنا وتعاضدنا تلك اللحمة الخالدة!

العدد 1107 - 22/5/2024