مقامات الحمير وشقاؤها

في زمن مضى.. كانت الحمير جزءاً لا يتجزأ من مشهد الحياة اليومية في ضيعتنا، كان الحمار يقاسم صاحبه المشقة والعناء والتعتير من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وربما إلى ما بعد ذلك أحياناً، فلاحة الأرض وملحقاتها من أعمال الزراعة.. نقل الماء من العين.. نقل الحطب من الأودية والسفوح، إضافة إلى وظيفتها التقليدية وسيلة نقل شخصية حيث لا سيارات ولا غيرها من وسائل النقل العصرية. زخم حضور هذا الحيوان الصبور الجَلِد في الحياة الاجتماعية بلغ ببعض بني جنسه مبلغاً من الشهرة والصيت كفيلاً بإثارة غيرة حمار جحا وحسد حمار سانشو بانزا، وغدت جزءاً من فلكلور المنطقة، فمثلا  كان لرفسة ( لبطة) حمار عبيدو السقا من الشهرة والصيت ما لم يتأتّ لتسديدة مارادونا في أيام عزّه، ما جعلها مضرب مثل في القوة والدقة والمباغتة، كذلك الأمر بالنسبة (لحرنة) حمار طاهر عزو التي طالما ضربت مثلا  في العناد والتعنّت، أما عن حنجرة حمار سطوف الأعرج وطبقات النهيق التي تصدح بها فحدّث ولا حرج، أشهر حمير ضيعتنا وما حولها بلا منازع كان حمار سلّوم شعيبان الذي – بخلاف غيره من الحمير – لم ينل ما ناله من الشهرة والمجد لميزة ذاتية يتميز بها ولا لطبع نادر عرف به، بل لأسباب (جيواستراتيجية) مرتبطة بموقع معلفه الحساس على مفترق طرق قرى ثلاث، فضلا  عن إطلالة مميزة على درب العين ودرب الحرش في آن، حيث لم يكن لأي من أبناء تلك القرى أن يطوي يوماً من عمره دون أن يكحّل عينيه بمرآه مرتين على الأقل، فتحول مع الزمن إلى نقطة علاّم يهتدي بها الركبان.

كل ذلك كان في زمن ظنّ الناس أنه قد مضى إلى غير رجعة بعد أن غزت التكنولوجيا شتى مناحي النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وكفتهم الحاجة إلى مجهود الحمير، فتنكروا لها وأنكروا إرثهم المشترك معها، فتشتت شملها وصارت أثراً بعد عين، بعضها دشَر وبعضها طفش وبعضها الآخر واجه مصيراً أسوأ بكثير، فأمست طريدة الحرمان والإنكار وفريسة لأنياب الضباع والذئاب.

من بين كل ملاّك الحمير، عبيدو السقا وحده أبى أن يخون العشرة، فآثر الاحتفاظ بحماره ذي اللبطة الشهيرة رغم تركه لكار السقاية وامتهانه تجارة العقارات، بل إن رأفته بجنس الحمير دفعته مؤخراً إلى إيواء جحش لقيط رمى به حظه السعيد إلى حوش داره ذات ليلة عاصفة – والجحش هو صغير الحمار خلافاً لما هو شائع بين العامة الذين درجوا على سوقه مثلا  في الضخامة والبأس -.

ثم دار الزمان دورته وأتت على بني الإنسان أيام عادت بهم إلى الوراء عقوداً.. ضاقت أسباب الحياة وتقطعت سبل الرزق وانداحت الأزمات الواحدة تجر زمام الأخرى، أشد الأزمات وطأة على أبناء الريف كانت أزمة المحروقات، ولأن (البرد قاتول) لم يجد أبناء الضيعة الجبلية المعروفة بقسوة شتائها بداً من العودة إلى زمن الاحتطاب من الأحراش كما في الأيام الخوالي، في بداية الأمر كان بمقدور غالبيتهم تدبر أمر تأمين الحطب من الأجمات القريبة، ولكن شتاءً بعد آخر تراجع الحزام الأخضر بعيداً عن تخوم الضيعة، ووجد الناس أنفسهم بإزاء مشكلة نقل أكوام الحطب من قلب الأحراش النائية الوعرة المسالك حيث لا يجدي أي من ابتكارات الثورة التكنولوجية نفعاً، مفتاح حلّ المعضلة كان في خرج حمار عبيدو السقا الذي اكتسب من عمله بالعقارات ملكة انتهاز الفرص، فلم يتردد في الزج بحماريه في بازار الحطب والتحطيب متقاضياً لقاء خدماتهما الجليلة أجراً فاحشاً يتناسب وتفرده بامتلاك هذا الكنز البيولوجي النفيس، ولكن احتكاره للسوق لم يدم طويلا، فسرعان ما أثار هذا القطاع الحيوي الجديد شهية أصحاب الرساميل، فتهافتوا للاستثمار فيه ما أدى لازدهار تجارة الحمير أيما ازدهار، وقد تحدثت مصادر مطلعة من داخل سوق الحمير المجاور لضيعتنا عن ارتفاع قياسي في مؤشرات أسعار الحمير مدعومة بمخاوف من وصول عاصفة أخرى أشد وطأة من زينة، من جهة، ورواج شائعات عن زيادة وشيكة على أسعار المحروقات، من جهة أخرى، ويقال إن آخر جلسة من جلسات التداول شهدت عقد صفقة بيع حمار بلدي بمبلغ 100 ألف ليرة سورية، فيما لم تسمح تقلبات أسعار السوق بتحديد سقف لسعر الحمار القبرصي المستورد، كما تحدثت المصادر ذاتها عن توجه بعض كبار المستثمرين إلى تطوير هذا القطاع الاقتصادي الواعد برفده بأسطول من البغال المستوردة ذات المواصفات المميزة بغية سد حاجة السوق المتزايدة في المواسم المقبلة.

في مطلع الألفية الثالثة، تعود الحمير لتتبوأ مكانها التاريخي في مشهد الحياة الريفية، وتعود معها الألسن إلى تداول مفردات كادت تسقط من قاموس لغتنا كالمعلف والخرج والمرسة والمعقال، عادت الحمير تختال على الدروب والطرقات هازئة بضجيج ثوراتنا، من الثورة الصناعية حتى ثورة الاتصالات، عادت ولسان حالها يقول: انتظرونا في شوارع مدنكم الكبرى قريباً!

العدد 1105 - 01/5/2024