(لماذا كـان ماركس محقاً؟! (31

 عندما نقول إن البشر منطقيّون، فإننا نقصد بذلك أن سلوكهم ذو شأن ويمكن فهمه. لقد عاب الناس على فلاسفة عصر التنوير المادّيين أحياناً، بحقّ، أنهم اختزلوا العالم إلى مادّةٍ ميتة وخالية من المعنى. العكسُ تماماً يسري على مذهب ماركس المادّي.

ليس مفحماً جوابُ المادّي على اعتراضات الشكّاك المتشائم الذي يمكنه أن يردّ عليه بأنه لا يمكن أن نثق بخبرتنا في مجال التعاون الاجتماعي أو العوائق التي يضعها العالم في طريق مشاريعنا، إذ من الممكن أن كل ذلك غير موجود إلا في مخيّلتنا. ومع ذلك، فإن معالجة هذه القضايا من وجهة نظر مادّية يجعلها تبدو مختلفة اختلافا بيّناً. وعلى سبيل المثال، نلاحظ أن المثقّفين، الذين يؤمنون بوجود روحٍ بلا جسد ويصرّون على ذلك، يحتارون عندما يُسألون عن ماهيّة العلاقة بين الروح والجسد والروح وأجساد الناس الآخرين. فهم يرون أحياناً هوّة عميقة بين الروح والعالم المادّي. وهذا غريب، لأنه ليس من النادر أن يُسهم تأثير العالمعلى عقولهم في الوصول إلى هذا الرأي. ففي النهاية، يشكل المثقفون طائفة تعيش لحدٍّ ما بعيدة عن العالم المادّي. ولا يمكن لنخبة مهنية من القساوسة والحكماء والفنانين والمستشارين والمحاضرين في جامعة أكسفورد، وما شابه، أن يعيشوا لولا وجود قيمة زائدة اجتماعية مادّية.

آمن أفلاطون بأن الفلسفة تحتاج إلى نخبة من الأرستقراطيين الذين لا يُطلب منهم العمل. فالمنتديات الأدبية ونوادي العلماء لا يمكنها أن تستمر إذا كان لزاماً على كل واحد منهم أن يعمل من أجل الوصول إلى حياة اجتماعية مقبولة عموماً. في مثل هذه الظروف تكون أبراج العلماء العاجيّة نادرة ندرة لعبة البولينغ في الحضارات القبليّة وهي نادرة أيضاً في المجتمعات المتقدّمة، عندما تصبح فيها الجامعاتُ أجهزة دعمٍ لرأسمالية اتحاد الشركات الكبيرة، التروستات. وبما أن المثقفين لا يقومون بأي عمل على غرار البنّائين مثلاً، فإنهم يعتبرون أفكارهم في مرحلةٍ مّا مستقلّة عن الوسط الاجتماعي. وهذا واحد من المواقف التي ينظر إليها الماركسيون على أنها عقيدة (أيديولوجيا)، وهم يسهون عادة عن أن بعدهم عن المجتمع يُمليه المجتمع ذاتُه. والحكم المسبق باستقلاليّة التفكير عن الواقع، ينطبع هو ذاته بالواقع الاجتماعي.

يأخذ تفكيرُنا، وفق ماركس، شكله من خلال تعاملنا مع العالم. وهذه ضرورة تحددها احتياجاتنا الجسدية.

فالتفكير والغرائز الجسدية تتبادل التأثير بشكل وثيق. وهذا ما عرفه كلٌّ من نيتشة وفرويد أيضاً. الوعي هو نتيجة التفاعل بيننا وبين محيطنا المادّي. إنه نتاج تاريخي. تدين الإنسانية بنشأتها، وفق ماركس، للعالم المادي، لأننا فيه فقط نستخدم قوانا في الصراع معه وضده، ونتأكّد من حقيقتها. هذا الشكل الآخر من الحقيقة، ومقاومتُها لخططنا فيها، هو أساسُ عمل حواسّنا، وأساس وعينا. وهذا الشكل الآخر من الحقيقة هو قبل كل شيء وجودُ الآخرين. نحن على ما نحن عليه بواسطة الآخرين. والهوية الشخصية هي نتاج اجتماعي. وبهذا المعنى للكلمة، لا يوجد شخص وحده، كما لا معنى لوجود رقم وحده.

تأليف: تيري إيغلتون

إيرينا داوود

العدد 1105 - 01/5/2024