الاتفاق النووي الإيراني ـــ الأممي وحسابات الأمن القومي العـربي الاستراتيجيــة(1من2 )

 يصاغ مفهوم الأمن القومي وفقاً لما يتم اعتباره مجالاً حيوياً للدولة، وبما يتلاءم مع سياستها العليا وطموحاتها الوطنية والقومية بهدف إيجاد الشروط والظروف المناسبة محلياً وإقليمياً ودولياً لحماية استقلالها وقيمها الوطنية والقومية، ويختلف محتوى الأمن القومي ومدى قيده الجغرافي من بلد إلى آخر تبعاً لمحددات أساسية: (التطور الاقتصادي والصناعي والتقني، والتنمية الاجتماعية والقدرات العلمية والأكاديمية والقدرات العسكرية التقليدية المفعلة والكامنة، والنووية إن وجدت، إضافة إلى اعتبارات الأمن الدولي..).

بطبيعة الحال يختلف مفهوم الأمن القومي للدول التي تمتلك قدرات نووية عسكرية عنه في الدول التي لا تمتلكها، فامتلاكها يحقق الشروط الضرورية للردع وهي تشكل مظلة ردع ذات مصداقية عالية، تتعاظم تحت هيبتها وجبروتها القدرات القتالية التقليدية،وحماية الكيان السياسي والجغرافي وتكريسه لتلك الدول،الذي يؤدي إلى التحرر من إيقاع التهديدات الخارجية، ويضعف إمكانية التأثير على استقلالية مفاهيم الدفاع والسيادة السياسية والعسكرية، كما توفر قاعدة علمية متطورة تساهم في التطور الاقتصادي والصناعي والعلمي، ينتقل إلى مؤسسات المجتمع كافة، خاصة أنه لا يمكن الفصل بين بحوث السلام وبحوث الحرب، في ظل التكامل بينهما،كما يقال إن الحرب والسلام وجهان لعملة واحدة. فغالباً ما كانت الحروب سابقاً محركاً للتاريخ، وأصبحت اليوم محركاً للتطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، فالاكتشافات في المجال العسكري تجد تطبيقاتها في القطاع المدني وفي العلوم التطبيقية وغيرها من مجالات الحياة.وقد شكل حظر تصدير (التكنولوجيا المتطورة) أحد أشكال العقوبات التي فرضها الغرب والولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي، كما شكّل دافعاً وهدفاً في آن واحد من وراء فرض الحصار والعقوبات الغربية- الأمريكية على إيران، ومحاصرة قدراتها العلمية والنووية خاصة في مجال تخصيب اليورانيوم. وهو بيت القصيد في الاتفاق النووي، الذي سيؤدي إلى كبح البرنامج النووي الإيراني لمدة10 سنوات من خلال آليات الرقابة الدولية عبر دخول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية إلى المواقع النووية في أي وقت ودون أن يسمح بمزيد من التخصيب لصناعة السلاح النووي، الذي شرع قدرات إيران النووية وجعلها تحتل حيزاً هاماً من المصالح القومية الإيرانية بل جزءاً من أمنها القومي. كما فتح المجال لاندماج إيران في المجتمع الدولي من خلال تأكيد سلمية برنامجها النووي، ورفع العقوبات المفروضة عن إيران الذي سيدر مئات المليارات دولار على خزينة الدولة، والذي سيؤدي إلى تنامي الدور الاستراتيجي لإيران في المنطقة.

ومن البديهي أن تنعكس تداعياته على الحياة الداخلية لإيران من جوانب متعددة، ليس هنا موضوعها، وعلى مفهوم الأمن القومي الإيراني بأفضلية وحتمية تبني إستراتيجية شاملة لتحقيق توازن عسكري مع الخصوم (المفترضين).

ومن التداعيات المحتملة التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق، حصول متغيرات إقليمية ترسم قواعد جديدة في العلاقات الدولية على قاعدة التعاون لحل أزمات المنطقة، ومن بينها الأزمة السورية وانفراج في العلاقات الإيرانية الخليجية ومحاربة الإرهاب.

ومن التداعيات المنظورة على الأمن القومي العربي، تلك التي تكمن، في رفع وتيرة سباق تسلح في المنطقة بين الدول التي تمتلك تكنولوجيا نووية أولاً، وسباق تسلح تقليدي بين دول الشرق الوسط ومن بينها الدول العربية، بانخراط عميق وواسع من تلك الدول التي ترى في القدرات النووية الإيرانية تهديداً لأمنها واستقرارها،وفي المقدمة منها العربية السعودية التي ستسعى إلى إقامة توازن استراتيجي عسكري مع إيران، مع العلم أن التوازن الاستراتيجي ليس عملية حسابية، ولا يقتصر على القدرات العسكرية فقط، بل يعتمد على عناصر القوة الشاملة (الاجتماعية – العلمية – التكنولوجي – الثقافي – الاقتصادية والسياسية). إضافة إلى كيفية إدارة الاستراتيجيات التي تستثمر وتوجه هذه الجهود في هذه الأبعاد. بطيعة الحال تلعب سياسة التسلح ونوعية الأسلحة ومستوى تطورها دوراً في تحديد جوهر الاستراتيجية الدفاعية والسياسة للدولة فيما يتصل بالأمن القومي، من زاوية أخرى يساهم الإنفاق العسكري في تطوير منهاج البحث والمستوى التكنولوجي للدول التي تنتهج هذه السياسة ويكون له مكاسب ومردود اقتصادي بسبب الاستمرار في تطوير الصناعات العسكرية ويشكل مصدراً من مصادر الثروة الوطنية.

بطيعة الحال تلعب سياسة التسلح ونوعية الأسلحة ومستوى تطورها دوراً في تحديد جوهر الاستراتيجية الدفاعية والسياسية للدولة فيما يتصل بالأمن القومي.كما أن ميزان التسلح ونوعيته سيتأثر بالموقف الأمريكي بعد الاتفاق باعتبار أن توقيع الاتفاق مناسبة ملائمة لتصريف وبيعها والأسلحة وازدهار تجارتها التي تكون مرتبطة بالسياسية الأمريكية وطبيعة الأنظمة التي تزودها بالسلاح، وعادة ما يؤمن وجوداً عسكرياً مباشراً (الصيانة والتدريب، إعداد طواقمه…)، ومن المتوقع إبداء مرونة أكثر لتزويد دول الخليج العربي بأسلحة متطورة، تحت مبررات (حماية الخليج من التهديد الإيراني). وقد تسعى السعودية لامتلاك قدرات نووية عسكرية اعتماداً على قدراتها الاقتصادية، وليس بالضرورة أن تتوفر عوامل التكامل التكنولوجي لامتلاكها، ومصر التي تمتلك قدرات علمية وتجربة سابقة في هذا المجال منذ بداية الستينات من القرن الماضي.

وتظهر نتائج سباق التسلح في المجالات الرئيسية التالية:

– المجال العسكري: يؤدي ذلك إلى تطوير الكفاءة القتالية والقدرات العسكرية ورفعها وتعزيز مفهوم الكمون القتالي لدول المنطقة وإحداث تحولات نوعية من خلال اعتماد المهنية والاحتراف بشكل أوسع في بنية جيوش المنطقة وخاصة للدول العربية.

– المجال الاقتصادي والاجتماعي، من زاوية ما يشكله سباق التسلح من أعباء على موازنة الدولة. وعرقلة عمليات التنمية في المجالات المختلفة، بسبب تحويل مبالغ طائلة للإنفاق العسكري، ما قد يؤدي إلى مراكمة الديون بسبب الفوائد التي تضعها الدول المصدرة للسلاح على الدول المستوردة، التي ستبقى بحاجة إلى التدريب والصيانة وقطع الغيار للمحافظة على جاهزيتها، مما يجعلها تدور في فلك التبعية الاقتصادية للدول الصناعية، وبالتالي ستضطر لإبداء مرونة أكثر تصل إلى حد المساومة على سيادتها العسكرية والتقنية بشكل أو بآخر،وأقرب مثال على ذلك لجوء فرنسا لنزع القدرات النووية من طائرات (رافال) المباعة لمصر ضمن صفقة تتجاوز قيمتها خمسة مليارات دولار التي وصل منها ثلاثة إلى مصر، في 20/7/2015 للمشاركة في افتتاح قناة السويس الجديدة.

يقتضي مفهوم الأمن القومي العربي رؤية المستجدات القادمة والتحولات الإقليمية والدولية الناجمة عن الاتفاق لتشكل أرضية مشتركة لتعزيزه ولإعادة صياغته وفقاً للمستجدات التالية:

– كسر الاحتكار الإسرائيلي لامتلاك قدرات نووية وعلمية وتكنولوجية، وهو ما يفتح المجال لسعي بعض دول المنطقة إلى امتلاكها، ومن بينها بعض الدول العربية.

– تراجع مصداقية استراتيجية الردع الصهيونية النووية والتقليدية، فلم يعد الخطاب الإسرائيلي يلاقي تأييداً كما كان قبل الاتفاق، وأصبحت وحيدة في تصوير القدرات النووية الإيرانية كأنها (محرقة جديدة) أو (أسطورة العداء للسامية) (وأنه لا يبتعد عن الهرطقة السياسية والإعلامية.

– الحد من قدرة الكيان الصهيوني على المناورة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لضرب البرنامج النووي الإيراني، باعتبار أن ذلك يحتاج إلى مشاركة أو موافقة أو ضوء أخضر أمريكي، وهو لم يعد وارداً بعد الاتفاق الذي منح الحصانة الدولية لمواقعها النووية. والولايات المتحدة التي بدأت مكانتها المعنوية بالتآكل والتراجع أمام حلفائها بدءاً بتخليها اللافت للنظر عن أخلص حلفائها (الرئيس حسني مبارك المصري، والرئيس زين العابدين التونسي). وازدواجية المعايير التي تعتمدها في تصنيف الإرهاب ومحاربته، ورفض الرئيس أوباما الحرب على إيران، وإبرام الاتفاق النووي، وتصريحه بأن لإيران دوراً في حل الأزمة السورية.

– في ضوء اتضاح أهداف السياسة الأمريكية والغربية وفشلها في إعادة الاستقرار والأمن وماسمي بإحلال الديمقراطية التي شنت الحروب باسمها، وتحول ( العراق، ليبيا، اليمن) إلى دول فاشلة. وسورية إلى الدولة المركزية وبسط سلطتها على كامل جغرافيا الوطن في مواجهة سياسات التقسيم العدوانية التي تمارس ضد الأمة العربية جزئياً أو كلياً. ما يقتضيه الأمن القومي العربي فتح حوار استراتيجي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وليس معاداتها، فإيران دولة إقليمية قوية تتمتع بإمكانات عسكرية واقتصادية وعلمية تؤهلها للعب دور فاعل في ملفات المنطقة التي هي جزء منها، على العكس من الوجود الصهيوني الدخيل الذي عقدت بعض الدول اتفاقات (سلام) معه تحت ضغط موازين قوى تعمل لصالحه كما أن وجود مصالح مشتركة بين الأمتين الفارسية والعربية يحتم اتخاذ هذا الموقف،كذلك اتخاذ موقف موحد من موضوع التسلح النووي الصهيوني، والموقف من الإرهاب.

هناك حكمة رومانية تقول (إذا أردت السلام، فاستعدّ للحرب)! فأين العرب من السلام ومن الحرب؟!

العدد 1105 - 01/5/2024