إدارة التنمية والتنمية الإدارية

إن الوصول إلى تأمين الحاجات الأساسية للمجتمع، اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، هي الغاية التي تنشدها البلدان من خلال السياسات والبرامج التي تعدّها الحكومات وتعمل على تنفيذها، سواء على المدى الطويل من خلال التخطيط الاستراتيجي، أو من خلال الخطط المرحلية (القصيرة المدى أو المتوسطة)، للوصول إلى الأهداف الاستراتيجية المخطط لها.

وبذلك فإن التنمية المتوازنة، المستمرة، المستقلة، المستقرة عنوان عريض لأهداف طموحة مخطط لها تسعى إليها البلدان، وهذا يستلزم توفّر كوادر وموارد بشرية مؤهلة تقنية منضبطة، لتدير وتقود العمليات التنفيذية الموصلة إلى الأهداف المخطط لها. وكم من بلدان غنية بالموارد الطبيعية يعاني شعبها من قلة الحال و العوز، وتعاني كذلك مؤشراتها الاقتصادية من سلبية، على عكس بلدان لا تملك ثروات طبيعية ولكنها، بثقافة شعبها وعلمه وعقليته، وصلت إلى أعلى مراحل التنمية والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.

فاليابان وألمانيا خرجتا من الحرب العالمية مدمرتين مدينتين محاصرتين، ونهضتا بتراكم معرفي وثقافي سابق، وبإدارة عالمة عارفة منضبطة، ونقارنها مع دولنا العربية ولنأخذ نموذج السودان الشقيق خزان الغذاء العربي بثرواته وأراضيه. وبذلك فإدارة التنمية عملية إرادية لا عفوية تعمل على الاستغلال الأمثل لموارد البلد وإمكاناته،
بما يحقق الفعالية والإنتاجية القصوى، وهي تنطوي مثل الإدارة بشكل عام على مجموعة من الوظائف، هي التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، وتتسم هذه الوظائف بالتشابك والتداخل، فمع أن لكل وظيفة خصوصية معينة، وتستهدف تحقيق أغراض محددة، إلا أن هذه الأغراض تجتمع معاً لتحقيق الأهداف المخطط لها، فإدارة التنمية وسيلة تنشد تحقيق غايات معينة وأغراض محددة وأهداف عامة، فهي تعمل على استثمار القوى البشرية والإمكانات المادية المتاحة من أجل الوفاء بتطلعات البلد من خلال تحقيق غايات الأفراد والجماعات.

فالإدارة هي المرتكز الرئيسي في تطوير الأفراد والجماعات، والعامل الحاسم في تحقيق التنمية في المجالات كافة، وإن تحقيق التقدم في أي دولة يتوقف إلى حد كبير على كفاءة الإدارة وقدرتها على حسن الاستفادة من عناصر الإنتاج وتحقيق الكفاية الإنتاجية. وبالتالي فإن التقدم لا يتحقق بمجرد استيراد الآلات الحديثة وتوفير الأموال اللازمة، بل إنه يحتاج إلى فكر إداري وتنظيمي يُحسِن استثمار هذه الأموال وتخطيط عمليات الإنتاج ووضع الفرد المناسب في المكان المناسب بغية القضاء على التخلف..

إن مفهوم التنمية الشاملة المتكاملة والمتوازنة والمستدامة يمكن تحقيقه من خلال فهم أهمية تبني الرؤى الأساسية لبناء إدارات وتنميتها، حتى نحقق من خلالها إدارة التنمية بشكل سليم ومتوازن. وإن أهداف إدارة التنمية تختلف من بلد إلى آخر وفي البلد نفسه قد تختلف حسب الظروف، فمثلاً قبل الأزمة في سورية وقبل النهج الاقتصادي الذي تستّر باقتصاد السوق الاجتماعي ليسير بنهج فوق الليبرالي وفق سياسات لا تراعي المجتمع وتسير عكس ما يجب،
فقبل السير بهذا النهج وبعد الوصول إلى مؤشرات اقتصادية واجتماعية مميزة من حيث الأمن الغذائي، والصناعات التحويلية والنسيجية والدوائية والكيماوية وبنى تحتية مميزة، وانتشار أفقي وعمودي للتعليم والصحة، ومعدلات منخفضة بالأمية والفقر والبطالة، كان الواجب أن تكون الأهداف مرتبطة بتحقيق جودة هذه الخدمات وتكريسها والعمل على زيادة الطاقات الإنتاجية والاستثمار الفعال عبر مشاركة كل القطاعات وفق تعددية بناءة،
ولكن الانقطاع الذي حصل عبر إدارات غير واقعية هدفها تنفيذ أجندات معينة حصل الانقطاع ومهد للولوج في ثغرات كانت كالنار في كومة قش. وكذلك فإنه خلال الأزمات تكون الأهداف لإدارة التنمية، التي يجب أن تسمى إدارة أزمة، حسب عمق الأزمة وانتشارها، تختلف الأولويات وحتى أبعاد القرارات والخطط، وقد تأخذ القرارات أبعاداً غير اقتصادية وإنما أمنية، وتكون الأولويات تأمين الغذاء والأدوية والوقود والعتاد والسلاح،
حتى السياسات النقدية والمالية تصبح في إطارات أخرى، ولكن هذا لا يعني أن تكون الأزمات شماعة لتبرير سياسات تخنق وتفقر البلد المعني، فأكيد الإقراض يصبح في إطار ضيق بسبب الحالة الأمنية غير المستقرة وصعوبة تأمين الضمانات، أو حتى لا يذهب القرض في اتجاه آخر، ولكن السياسات النقدية يجب أن تحافظ على سعر صرف يجعل ثقة المواطن كبيرة من خلال سعر يسيطر عليه ويناسب الواقع.

ويبقى تأمين معيشة المواطن وضبط الأسعار وقيادة الحكومة للعملية الاقتصادية والاجتماعية ضرورة حتمية في هذه الظروف لمنع تجار الأزمة و الدم من استغلالها، وكذلك فإن مشاركة كل أبناء البلد المأزوم كل حسب دوره هي ضرورة ، ولذلك فإن للأزمات إدارات متخصصة مرنة مستوعبة قادرة على إعطاء القرارات الأبعاد مجتمعة، والعمل على تكليفها ضرورة للعبور لبر الأمان و بعد احتواء الأزمة تصبح الأجندات مختلفة نحو الانطلاقة لإعادة الطاقات الإنتاجية وضبط الفوضى و مواجهة الفساد للاستفادة من كل الطاقات و الجهود سيراً بإعادة تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين ،وضمن تلك المتغيرات من الخطط والحاجة إلى جهود وعقول و كفاءات مناسبة تأتي أهمية التنمية الإدارية التي لها أهمية كبيرة في تأهيل الكوادر الموجودة أو المحتاج إليها لاستثمارها بما يناسب الخطط و الأهداف.

فكما وجدنا فإن إدارة التنمية تتطلب إعادة النظر في كثير من الأنظمة والإجراءات التي نعمل من خلالها اليوم، كما تتطلب إعادة النظر في الصلاحيات التي تمنح للمسؤولين في الأجهزة المركزية والإقليمية والمحلية بما يسرع من تنفيذ القرارات في الوقت المناسب ، وبذلك فإن الحاجة ماسة لتنمية إدارية تطول الهياكل التنظيمية والكوادر والقرارات وآلية اتخاذها بما يؤمن السرعة والشفافية ويعطل خفايا الروتين المساعدة لبعض النفوس الضعيفة، وإعطاء سياسة التدريب والتأهيل دورها الحقيقي لا أن تكون غاية لصرف بعض بنود الموازنة او ديكوراً تلميعياً، وكذلك استخدام التكنولوجيا والتقنيات وصولاً إلى حكومة إلكترونية فاعلة وليس مواكبة تطور بلا فاعلية حكومة متابعة مخففة من الفساد والروتين ومعجلة بأخذ القرارات.

وهنا يجب أن نعترف بغياب الجهد المنظم والمتميز للاهتمام بتنمية الإدارة وتوفير كل الإمكانات التي تدعم الأخذ بها من خلال الجامعات والمعاهد والمراكز التي تعنى بذلك وتربط بين البعدين الأكاديمي والعملي وتعمل من خلال تعاون وثيق مع القطاعين العام والخاص لمساعدتهما على إيجاد دعم، والاستفادة من المراكز التي تبني القيادات الإدارية التي تعي وتفهم العلاقة بين الإدارة والتنمية، وأنها لن تستطيع أن تحقق إدارة التنمية دون تنمية الإدارة، وأنها لن تحقق التنمية دون إدارة تنمو معها وتعرف متطلباتها وفقاً للظرفين الزماني والمكاني لها في الحاضر والمستقبل.

وبذلك فإن الإصلاح الإداري هو المدخل للإصلاح والتطوير من أجل الاحتواء وإعادة الانطلاقة والبناء في سائر المجالات، لذلك يجب الاستمرار في تأهيل وتدريب العدد الكافي من الإداريين الوطنيين، وتعتبر التنمية الإدارية والإصلاح الإداري وتطوير الإدارة مدخلاً ضرورياً لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة في المجتمع.
وحسب رأينا فإن اختيار الكفاءات الإدارية المتميزة، حسب مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب، عامل أساسي في خلق الإدارة الناجحة.
وقواعد التناسب بين الرجل والمكان تحددها الكفاءة، والبعد عن هذه القاعدة سبب في استشراء الفساد والهدر وبث الفوضى وعدم الثقة بين المواطن والمسؤول ، وإن نجد بين حين وآخر تطورات هيكلية كإعادة دمج مؤسسات أو إيجاد وزارات والاستغناء عن أخرى، ولكن الغاية من قرارات كهذه تقوض عند التنفيذ كما وجدنا من خلال وزارة التنمية الإدارية التي استثمرت لتعويم مدربين وكوادر بلا تدريب بخصوص التنمية البشرية و الطاقات وغيرها في وقت كان الواجب ثورة إدارية تقوم بها بكل المجالات أفقياً وعمودياً، وبتغلغل بكل المفاصل لتوصيفها ووضع المؤهلات والواجبات، وكذلك بخصوص إيجاد وزارة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، ووصول المستهلك إلى وقت أصبح يبحث فيه عمّن يحميه منها ومن دورها، وإنما عاكست ما أُقرّت لأجله.

فإيجاد وزارة التنمية الادارية مهم لأن التنمية الإدارية استراتيجية تدخّل شاملة تعتمد على جهد منظم يهدف إلى إحداث التغيير بغية تحسين كفاءة الجهات الإدارية وفاعليتها، لتطوير مقدرتها على التجدد والتطور والتلاؤم مع المتغيرات، التقنية- العلمية- السياسية ، التشريعية- الاقتصادية.

أي أن التنمية الإدارية هي طريقة منظمة لإحداث التغيير الضروري في جهة ما أو مؤسسة ما أو منظمة ما عن طريق التدخل في كيفية عملها أو في آلية سير العمل بغية تكيفها من تبني استراتيجية للرد على المتغيرات والسيطرة عليها والتأثير فيها والتلاؤم معها.

والتنمية الإدارية جزء أساسي من خطط التنمية ومحور فعّال وبعد رئيسي في استراتيجية التنمية الشاملة لبلد من البلدان.

فاستراتيجية التنمية الإدارية التي لا بد من تبنيها ما هي سوى استراتيجية جزئية من استراتيجية أعم وأشمل هي الاستراتيجية التنموية الشاملة أو الكلية بكل أبعادها: الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والإدارية والعلمية.. وهي تشكل بأبعادها المتنوعة المتعددة هذه كلاً متكاملاّ تتداخل عناصره وتترابط محاوره وتتشابك مكوناته في علاقات متبادلة حتى تشكل هذا الكل المنسجم المتناغم المتكامل.

بمعنى أن كل بعد من هذه الأبعاد أو كل محور من هذه المحاور المتضافرة يجب أن يبلغ مرحلة تطور مناسبة يستطيع من خلالها تقديم الدعم والمساندة للأبعاد الأخرى ومؤازرتها كي يدفعها قدماً نحو الأمام لتحقيق الأهداف المنشودة، لكنه في الوقت نفسه يحد من حركتها ويعرقلها إذا لم يرقَ في تطوره ونموه إلى مرحلة التطور التي بلغتها الأبعاد الأخرى وينسجم معها وقد يكون حجر عثرة وقد يشدها إلى الخلف.

فعملية التنمية هي بطبيعتها عملية متطورة متعددة الجوانب والأبعاد، والاختلال الحركي في أحد محاورها يحدث خللاً جوهرياً في نتائجها.

مجالات التنمية والتطوير الإداري من خلال مؤشراتها الأساسية المتصلة بمجموعة الجوانب والمبادئ التنظيمية والإدارية المتعلقة بنظام السياسة العامة والبرامج الحكومية، كالاستقرار الإداري والكفاءة الإدارية والشفافية والجودة الخ.

وفي هذا الصدد توجد جملة من المؤشرات الأساسية التي تعارف عليها الباحثون في تحليل سياسات التنمية الإدارية والتي منها:

– مؤشر متوسط الدخل الفردي في الدولة.

– مؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية.

– مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع.

– مؤشرات الحكم الرشيد والمؤشرات المرتبطة به والتي تخص الأداء المؤسسي للدولة مثل: مؤشر فاعلية الإدارة الحكومية، ومؤشر التنظيم والضبط الدوليين.

– مؤشر مدركات الفساد الدولي

– المؤشرات المتصلة بالاستقرار الإداري في داخل الدولة.

ذلك أن هذه المؤشـرات هي متصلة بعضها بالبعض الآخر في الواقع العملي لسياسات التنمية الإدارية، وهذا ما يتضح من خلال اعتماد مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع على كلٍّ من مؤشري متوسط الدخل الفردي ومؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية فــي الدولة، في حين تترابط مؤشــرات الحكم الرشيد والشفافية الدولية بالجانب المتعلق بتطوير القدرات المؤسسية للدولـة.

وقد تطورت مؤشرات قياس التنمية الإدارية لدرجة أنه لم يعد يكتفى حتى بمؤشر متوسط الدخل الفردي للدلالة على المستوي المعيشي لمجتمع ما، وإنما تم تطوير معايير إدارية أخرى، لعل من أهمها مؤشر مستوى جودة الحياة الذي يأخذ بعين الاعتبار درجة الرقي في مناحي الحياة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وأمن ورفاهية في الحياة، كما أصبحت هناك مفاهيم أساسية في هذا الصدد تأتي على رأس أولويات المجتمعات بمختلف مكوناتها (من حكومات، ومنظمات مدنية، وأفراد، وغير ذ لك) ،
وبذلك نصل إلى نتيجة مفادها أن ما وصلنا إليه نتيجة الظروف الاستثنائية أو تراكمات سابقة أوجدت ثغرات وعصياً وضعت وتوضع في عجلة التنمية وفي طريق الانطلاقة المتجددة وفقاً لظروف الأزمة المعقدة المدمرة، والخروج من هذا الوضع يتطلب إدارة كفأة فاعلة منتمية للوطن ولخدمته، والحاجة إليها تستلزم إعطاء التنمية الادارية أهمية كبيرة كنظام تدخلي متكامل يعيد الثقة للمواطن ويخيف المرتكبين والمهملين..

 

العدد 1105 - 01/5/2024