(3) انتقام المستقبل

 في بداية الجزء الثاني من الكتاب يتحدث غور عن المحرك الرابع (النمو) السريع للحضارة البشرية وتعداد السكان وقوة التكنولوجبا وحجم الاقتصاد العالمي الذي يتصادم مع حدود منابع الموارد الطبيعية الرئيسية مثل المياه العذبة والتربة الصالحة للزراعة، أي المسالة الأيكولوجية وسلامة نظمها.

إن تبدلات كثيرة تحصل، من علاماتها صنع الصين لما يقرب من ربع إنتاج العالم من السيارات، وتراجع إنتاج الغذاء، وتضاعف عدد سكان العالم أربع مرات، وهو يسير بقوة لا ضابط لها، يلحظ ذلك في تعاظم سكن المدن والملايين فيها، مثل طوكيو التي تحوي 37 مليون نسمة مع زيادة مضطردة. كما نلحظ الجوع المنتشر في العالم تقابله البدانة التي يؤشر إليها زيادة وزن الأمريكي وسطياً بنحو عشرين رطلاً في السنوات الأربعين الأخيرة.

لكن غور لايتردد في الحديث عن مبدأ (الإسقاط الاجتماعي من الحساب) أي عدم وضع مصلحة القطاعات الواسعة من البشر في الاعتبار عند تخطيط السياسات، لأن المهم هيمنة الشركات وحيتان المال وأرباب الثروات التي بها تقاس مكانة الأمم في سلم الحضارة الذي اعتمدته أمريكا والرأسمالية العالمية. وهذا أمر أصبحت تقوده آليات شديدة القوة والبطش كالدعاية التي أصبحت تعتمد على تطبيقات علم النفس منذ بدايات القرن العشرين، إذ اجتذبت أمريكا علماء النفس لذلك من أمثال فرويد وبارينز ابن أخيه للتخطيط الدعائي. وقد قال مازور شريك بارينز: (يجب تدريب الناس على الشهوة) فقد أصبح التحريض على الاستهلاك عاملاً أكثر أهمية من الإنتاج.

ما يترتب على ذلك لدى الشعوب التي يستغرقها الاستهلاك، هو زيادة كمية النفايات، والتلوث الذي ينتج عن ذلك في عالم يبلغ فيه التضخم السكاني أرقاماً مرعبة قد تصل إلى خمسة عشر ملياراً نهاية القرن. وتسود التشوهات في مجال الأسرة فتبلغ نسبة المواليد من نساء غير متزوجات في الولايات المتحدة واحداً وأربعين في المئة  كما تؤشر التطورات إلى زيادة طول العمر بين سكان العالم، خاصة في الدول المتقدمة ومثالها أمريكا. وهذا يلقي عبئاً على الدولة. ففي اليابان زاد استهلاك الحفاضات للكبار عنه للصغار مثلاً، كما أصبحت الهجرة مثالاً على الاختلال المغلق في العالم ومن ذلك يضطر إلى اللجوء نتيجة السياسات مثل (القرار المشؤوم) الذي اتخذته الولايات المتحدة بغزو العراق، كما يقول. أو ما حدث ويحدث في أنحاء اخرى من العالم، خاصة في الوطن العربي.

يغرق الكاتب في تفاصيل ما تتعرض له البيئة في العالم، مما ينذر بخطر جسيم، وكل ذلك هو من نتاج النشاطات الاستثمارية الوحشية للموارد، أو عدم اتخاذ الاحتياطات الكافية في عدم الإضرار بالبيئة، من قبل القوى الصناعية. لكن غور دائماً يسعى إلى تحميل المسؤولية للآخرين، فهو مع عدم قدرته على إعفاء أمريكا مما يحصل، فإنه يريد أن يحمّل دولاً مثل الصين المسؤولية عن الخلل الأيكولوجي، متناسياً أن نشاط الصين الصناعي حديث بالمقارنة بأمثاله في الدول الرأسمالية الأخرى. لكن هذه هي ثقافة الأمريكي، توجيه الاتهام للآخرين، إنه مبدأ يلخصه تشومسكي بقوله: (إذا ضبطت ويدك في جيب غيرك فاصرخ! امسكوا اللص). إنه يعلم كيف يُصرف النظر عن المجرم المتلبس، ويكون في مقدوره التمسك الزائف بتلك الأخلاقية المصطنعة، والتي تنتمي إلى النصوص الدستورية لا إلى السياسات التي لا تنسجم معها. فهل يكفي أن يكون لدينا دستوراً جيداً وإعلاناً رفيعاً عن حقوق الإنسان لنكون بشراً أخلاقيين بجدارة؟!

***

المحرك الخامس للتغيير عند غور (إعادة اكتشاف الحياة والموت)، وكيف يخلق العالم الرقمي للبشر قدرة جديدة على تغيير الكائن البشري. إنها رحلة تبدأ من الرعاية الصحية الجيدة، خاصة بعد ثورة الجينيوم، وما تصطدم به من حسابات أخلاقية معقدة. لقد أصبحت الحياة مرقمة. لكن انتشار هذه التكنولوجيا يثير الأسئلة المقلقة لعلماء الأخلاق، فإنه: (يشكل علم الأحياء الاصطناعي ما يمكن أن يكون التحدي الأكثر جدية للإشراف الحكومي على التكنولوجيا في التاريخ البشري).

لقد أصبحت الحياة قابلة لتكون أكثر صناعية كما دلت على ذلك النشاطات التي أدت إلى الاستنساخ الذي يؤذن باستنساخ البشر الذي أصبح ممكناً من الناحية العلمية التكنولوجية. كما أن تطور الأبحاث الجينية والتلاعب بالمورثات يثير القلق لناحية توليد جراثيم ممرضة أكثر تمرداً على المضادات الحيوية. وهنا يصطدم العلم بإنسانية الإنسان، والحاكم على الصراع المتولد هو السياسات التي لم يعد ضبطها متيسراً بسهولة، كما أن انفلاتها من الرقابة من قبل جهات لا سيطرة لأحد عليها، أصبح أمراً ممكناً ومقلقاً. ولقد فعلت السياسات ما يمكن أن يوصف بالجرائم، فقد جرى في كثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة تعقيم أعداد كبيرة من البشر في ظل قوانين وحجج أخلاقية زائفة.

لم يكن داروين هو من وضع مبدأ البقاء للأصلح، بل ابن عمه السير فرانسيس غالتون، كما يقول غور، فدارو حدد الأصلح للبقاء بمن يستطيع التكيف لا بمن تسن القوانين لمنعه من التكاثر والبقاء، مثلما حصل من تعقيم أعداد من البشر كي لا ينجبوا، بحجة رداءة أصولهم في أكثر من بلد رأسمالي، ما يشير إلى أبشع أنواع التمييز.

إن قذارة السياسات تجعل ما يجري من تطور في هذا المجال يؤذن بما لا تحمد عقباه أخلاقياً إذا كتب له الانفلات من الرقابة. فهل يسمح ما يجري في العالم من قوننة زواج المثليين أن تنجب امرأة من تطوير حيوانات منوية من خلاياها الجذعية تلقح بويضتها أو بويضة المرأة الأخرى فتصبح المرأة أماً وأباً، أو أماً لطفل أبوه امرأة أخرى؟ وقد يحدث ذلك في زواج الرجال المثليين فتنتج بويضة من خلاياهم الجذعية بفعل هندسة الجينات وتقنياتها، ويصبح الرجل أباً وأماً أيضاً. لقد أصبح هذا ممكناً تكنولوجياً كما يبدو. وإذا كانت الصين وهي ذات رقابة صارمة على ذلك، وهي المتقدمة في هذا المجال، فهل من ضمان للآخرين إذ يبدو التصنيع البشري كلياً أو جزئياً أمراً ممكناً، فصناعة الأعضاء البشرية التي أصبحت ممكنة تبشر بإمكانية استبدال ما نريد، والإنفاق على ذلك يلقى التشجيع.

هنا قد يبدو مبدأ (مدى الحياة ومدى الصحة)، أي حياة صحية مديدة مقبولاً ومشجعاً بقوة. وإذا كان ذلك قد أصبح ممكناً في ظلال الحذر من تعميمه وتطبيقه في المجال البشري، فهو في المجال الحيواني أقل حذراً، وفي مجال المحاصيل الغذائية النباتية أصبح مستخدماً بقوة، ومنتجاته تملأ الأسواق بالرغم من اللغط حولها، وحذر كثير من الشعوب من استهلاكها، إذ لم يصبح من المقبول المزج بين النباتي والحيواني جينياً مثلاً!

لقد تعودت المجتمعات الغربية، خاصة في الولايات المتحدة تجاوز الكثير من اللغط الأخلاقي وانهيار حواجزه في الصراع مع الثروة والنفوذ ، أي السلطة على المجال والهيمنة على العالم .

فالمجتمع الذي يتجاوز قصف اليابان بالقنابل الذرية، بل ويبرره، كما يبرر ويشجع حروب دولته وعدوان حكامها على الشعوب، لا يجد صعوبة في التآلف مع ما تثيره الثورة الجينية من مشكلات أخلاقية، إذا كانت الأضرار خارج المجتمع الأمريكي والغربي، وماهي إلا فترة قد تشعر هذا المجتمع بطعم الربح والثروة المتأتية من هذا المجال ،حتى يتناسى احتجاجاته الأخلاقية. فالأخلاق تابعة للثروة في تلك البلاد، مثلما هي (تنبع من فوهة البندقية ونحن من يمتلك البنادق فقط) كما يرى تشومسكي. هكذا عودت أمريكا العالم ولا تزال ترى أن عليه أن يقبل ما عودته عليه . فالمعادلة أن أمريكا تفعل والعالم يقبل .ويساير التبرير ويصنع المخارج تقوده السطوة لا القناعة .بالتالي فإن خلفية بحث غور تقول ذلك ،بل لا تقول غيره، وهو يبحث عن مخارج للاستعصاءات التي تمنع أمريكا من البقاء في دور المهيمن على العالم.

العدد 1105 - 01/5/2024