(33) لماذا كان ماركس محقاً؟

ترتبط جميع هذه الفعاليات الروحية آنفة الذكر بجسم الإنسان، وهذا ما يميّزنا عن غيرنا من الكائنات الحية.

كلُّ شيءٍ لا يعني جسمي، لا يعنيني. وعندما أهاتفكم، فأنا على اتصال جسدي معكم. إذا أردنا رؤية صورةٍ عن الروح، وفق الفيلسوف فتكنشتاين، فما علينا سوى النظر إلى جسم الإنسان. كانت السعادةُ بالنسبة لماركس، كما بالنسبة لأرسطو، ممارسة عملية، وليست وضعيّة نفسيّة. كان (الروحيّ) يعني في التقاليد اليهوديّة، وماركس هو سليلها الملحد، إطعام الجياع والترحيب بالنازحين (اليهود) وحماية الفقير من سلطة الأغنياء. وهذا ليس ضد العيش اليومي الدنيوي، وإنما هو طريقةُ عيشٍ معيَّنة.

هناك نشاط جسماني يعبِّر عن (الفكر) أو (الروح) بأجلى صوره، ألا وهي اللغة. اللغةُ، كما الجسمُ ككلّ، هي تعبير مادّي عن الفكر أو عن وعي الإنسان. قال ماركس في (العقيدة الألمانية): (اللغةُ قديمة قدم الوعي واللغة هي الوعيُ الحقيقي الممارس عملياً، الموجود لدى الآخرين، ولديَّ قبل كل شيء أيضاً. تنشأ اللغةُ، والوعيُ، من حاجة الإنسان الملحّة إلى التواصل مع الآخرين).الوعي ظاهرة اجتماعية وعملية بحذافيرها، واللغةُ هي التعبيرُ الأسمى عنه. ويمكن القول بأنني أملك أفكاراً ومشاعر، لأنني وُلدتُ في إرثٍ مشترك من المعاني والقيم. وفي مكان آخر يصف ماركس اللغة بأنها (وجود العيش المشترك والوجود الناطق لهذا العيش المشترك). ورأى أن لغة الفلسفة هي نوع مشوَّه من لغة العالم الحقيقي. والتفكيرُ واللغةُ هما مظهران من مظاهر الحياة الحقيقية، وإن كانا بعيدين كل البعد عن أن يوجدا في مجال ذاتي واحد. فحتى المفاهيم المجرَّدة جداً يمكن إرجاعها في نهاية المطاف إلى وجودنا الاجتماعي.

يستند وعي الإنسان إذاً إلى قدرٍ كبير من المقدَّمات المادّية. من يبدأ بوعي الإنسان، كما هو الحال في الفلسفة غالباً، يسهو عن هذه الحقيقة. وهذا ما يطرح أسئلة عديدة. لا تبدأ الفلسفةُ التقليدية من قديم العصور بما فيه الكفاية. وهي تسهو بالتالي عن أمور كثيرة: الظروف الاجتماعية التي تُنتج الأفكار، والأهواء المرتبطة بها، والتنافس على السلطة وحبائلها، والاحتياجات المادّية التي تخدمها. وغالباً ما لا تسأل عن: من أين يأتي هذا الإنسان الفاعل؟ أو: كيف حصل إنتاج هذا المفعول به؟ قبل أن نفكّر، علينا أن نأكل. وكلمة (الأكل) تفتح العيون على طريقة الإنتاج الاجتماعية بكاملها. وعلاوة على ذلك، يجب أن نكون قد وُلدنا.

وكلمة (ولادة) تشمل مجالات واسعة من القرابة والجنس والأبويّة والإنجاب… إلخ. قبل أن نفكّر في الحقيقة، نجد أنفسنا منغمسين عملياً وعاطفياً في مجمل هذه القضايا: وتفكيرُنا يحصل في هذا الإطار. وعن ذلك يقول الفيلسوف جون ماكمرّي( إن علمنا عن العالم يتحدَّد بالدرجة الأولى بطريقة تصرّفنا في هذا العالم). ويقول ماركس بأسلوب هايدإغر تقريباً: (لا يبدأ البشر حياتهم بإقامة علاقة نظرية بأشياء موجودة خارج عالمهم، إطلاقاً. يجب أن تحصل أشياء كثيرة قبل أن نستطيع البدء بالتفكير).لا يزال تفكيرنا مرتبطاً بطريقة أخرى بهذا العالم. فهو ليس فقط صورة طبق الأصل عن الحقيقة التي يعيش فيها، وإنما هو قوّة مادّية خاصّة ذاتياً. وهذا ينطبق على النظرية الماركسية أيضاً، فهي ليست تعقيباً علىالعالم، وإنما هي أيضاً أداة لتغييره.

في الواقع، يعطي ماركس أحياناً الانطباع بأن التفكير مجرّدُ انعكاس للواقع المادّي، إلا أنه يتناقض عندئذ مع قناعاته الراسخة الأخرى. تستطيع بعض النظريات، التي تسمى غالباً نظريات تحرّرية، أن تؤثّر في العالم كقوّة سياسية، بدلاً من تفسيره فقط. وهذا الواقع يمنحها صفة خاصة: إنها تعمل كوسيط بين الوضع القائم وبين ما يمكن أن يكون. وهي تصف، في الواقع، العالم، وتستطيع، عن طريق ذلك، تغيير الصورة الموجودة لدى الناس عنه، مما يساعد في تغيير الأمر الواقع. العبدُ يعرف أنه عبد، لكن معرفة لماذا هو عبد هي الخطوة الأولى لإنهاء العبودية. عندما تشرح هذه النظرياتُ الوضع القائم، كما هو، فإنها تبيّن أيضاً كيفيّة تجاوزه وبناء مستقبل أفضل. ومما هو قائم، تصلُ إلى ما يجب أن يكون. تمكّن هذه النظرياتُ الإنسان من التعرّف على نفسه وعلى وضعه، والشكِّ فيهما، ومن إعادة تشكيلهما من جديد أخيراً. وبهذا المعنى، نجد أن هناك علاقة وثيقة بين الفكر والمعرفة والحرّية.

لكن، كيف يمكن تغيير العالم من دون شرحه وتحليله؟ أوليست القدرة على التفسير لحدٍّ ما بداية التغيير السياسي؟

يقول ماركس في (حول نقد الاقتصاد السياسي): (إن الوضع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي. وبالمعنى ذاته يقول لودفيغ فتكنشتاين في كتابه (اليقين): (إن عملنا هو الذي يشكّل أساس لغتنا). ولهذا الأمر عواقب سياسية هامة. فهذا يعني مثلاً أن علينا، إذا ما أردنا تغيير تفكيرنا وشعورنا بشكلٍ جذري بما فيه الكفاية، أن نغيّر ما نفعله. ولا تكفي التربية وتغيير القناعة. فوجودنا الاجتماعي يحدُّ تفكيرنا. ولا نستطيع تخطّي هذه الحدود إلا بتغيير وجودنا الاجتماعي، أي تغيير طريقة حياتنا المادّية. لا يكفي التفكّر لتخطّي حدود التفكير.

لكن أليس هذا تقسيما خاطئاً إلى قسمين؟ عندما نقصد ب (الوجود الاجتماعي) مجمل الأشياء التي نقوم بها، فهذا يعني أن الوعي يجب أن يكون مشاركاً فيها، وبالطبع لا يوجد الوعي على الطرف الأول من الخندق ونشاطاتنا الاجتماعية على الطرف الآخر. فنحن لانستطيع أن نختار أو أن نقبل أو أن نصافح أو أن نغش مهاجراً من دون مشاركة القيم والمقاصد. ولا يمكننا القول عن سلوكٍ ما بأنه عمل إنساني دون الرجوع إلى هذه القيم، كما لا يمكننا أن نعتبر التعثّر أو الخطو أو قرقرة المعدة عملاً مدبراً مسبقاً. وكما رأينا، فوعي الإنسان عند ماركس متجسّد، أي أنه متجذّر في سلوكنا العملي. ومع ذلك نجده يقول بأن الوجود المادّي، لحدِّ ما، أكثرُ أهميّة من الأفكار والمعاني، بمعنى أن هذه الأخيرة يمكن تفسيرُها عن طريق الأول. كيف يجب فهم هذا الرأي؟

يقول أحدُ الأجوبة بأن التفكير عند الإنسان ضرورة مادّية، وهو كذلك وإن بطريقةٍ متخلّفة بالنسبة للقنفذ والقندس. يجب أن نفكّر، لأننا حيوانات مادّية من نوعٍ خاص. نحن كائنات تحب المعرفة، لأننا كائنات جسديّة. وطرق الحصول على المعرفة تمشي، وفق ماركس، يداً بيد مع العمل والصناعة والتجربة.

العدد 1105 - 01/5/2024