المملكة العربية السعودية من القبيلة إلى الدولة ــ القبيلة

 ينظر إلى بلاد العرب والخليج على أنها دول قبَلية، ولكن الواجب يقتضي ألا يؤخذ هذا الوصف إلا لكونه تعميماً بسيطاً، وذلك لأن التقاليد ذات الشبه الجزئي بالدولة في المنطقة كانت غالباً ما تميل إلى أن يكون لها بعد ديني، إضافة إلى البعد القبلي.

إن أهمية دراسة النزعة القبلية في بلاد العرب والخليج لا يبررها الثقل الديمغرافي والاقتصادي الهام الذي لا يزال البدو يمثلونه في بعض هذه البلدان فحسب، بل بسبب الدلالة السياسية والاجتماعية القائمة، وإن دراسة العلاقات المتبادلة بين المجتمعات البدوية والزراعية والتجارية يمثل مفتاحاً رئيسياً لفهم الكثير من التطورات التاريخية والسياسية لعدة أجزاء من العالم العربي. وإن الفهم الصحيح للحراك من القبيلة إلى الدولة في بلاد العرب والخليج يستلزم وضع البداوة في سياق العلاقات التجارية والثقافية والسياسية المحيطة بها.. لذلك فإن منطقة (نجد) الأكثر صحراوية في الجزيرة العربية قامت فيها بلدات ومدن على أطرافها تلتقي بمناطق الاستيطان في سورية وبلاد ما بين النهرين ومصر، كان البدو العرب يقايضون دائماً لحومهم وصوفهم وتمرهم وزبدتهم بالضروريات والكماليات القادمة من المناطق المحيطة بهم، وكذلك من مناطق بعيدة في آسيا وإفريقيا مثل الحبوب والتوابل والأقمشة وما إلى ذلك.

إن وضع البدوي تجاه المدينة هو وضع المستهلك، الذي أدى دور الوسيط أيضاً بين هذه المدن وطرق القوافل، ونصّب نفسه حامياً للتجارة وطرق الحج مقابل تسلم ضريبة الحماية (الخوّة) التي فرضها هو، وهكذا نمت مراكز حضرية في بلاد العرب منها حائل والرياض تربط شبه الجزيرة العربية بدمشق وبما بعدها، وفي الواقع كانت هذه بداية التشكيلات السياسية البدوية القبلية وما يمكن تسميته (دول الأتاوة) التي اتسمت بقدر من الاستقرار تحت مسميات إمارات مثل (إمارة الرّوَلة – ابن رشيد) وغيرها من الإمارات، وكان هناك ارتباط وظيفي تزود الطرق التجارية من خلاله المجموعات القبلية بفائض اقتصادي يوفر الحماية من الاعتداءات العشوائية مقابل ذلك.

إن عملية الانتقال من القبيلة إلى الدولة قد لا تعني بالضرورة زوال الأسس القبلية السابقة، بل تعني توسعها، وفي ظروف بلاد العرب فإن حركة الانتقال كانت من البداوة الرعوية إلى القبيلة البترولية، وقد أشرنا في البداية إلى أن الدولة في الجزيرة العربية غالباً ما كانت تميل إلى وجود البعد الديني إلى جانب البعد القبلي، وهذا ما نراه في نشوء الدولة السعودية التي ظهرت فيها الوهابية الأولى في القرن الثامن عشر حول نواة الرقعة التي كانت تتوسط البلدات والمحطات على امتداد محور الرياض- حائل ذي الأهمية الفائقة، وكانت مرتبطة ارتباطاً ضعيفاً بطرق التجارة وقوافل الحج، وقائمة على خليط من القوة العسكرية لمحمد بن سعود، أمير الدرعية، والنفوذ الروحي لمحمد بن عبد الوهاب الشيخ الحنبلي المتزمت.

ولا يوجد فهم سليم للأسس الاجتماعية لهذه الحركة التي أمكن لها توحيد معظم بلاد العرب لأول مرة منذ عهد النبي (محمد)، ولكن من خلال الارتباط دشنت بطريقة ما عملية توحيدية مركزية تحت شعار دعم سيادة الدين الموحد على البداوة المنقسمة، وأعطى المفهوم اللاهوتي للتوحيد وظيفة سياسية عن طريق رفض كل التلاوين في التفسير، ورفض جميع الوسطاء بين الرسالة الأصلية واللحظة والمكان الراهنين.

وعليه كان للوهابية الثقافية دور حاسم ستؤديه في المجتمع من خلال تمهيد الطريق لقيام سلطة مركزية، وعن طريق توسيع نفوذ الحركة من الحجاز إلى جنوب العراق، ومجازات البحر الأحمر تنبه عدد من الجيران إلى الخطر الكامن للحركة، فألحقت مصر محمد علي، بدعم من السلطات العثمانية والإمبراطورية البريطانية بها هزيمة ماحقة بالقوة الناشئة، ونتيجة لذلك حلت قبيلة منافسة هي آل رشيد محل آل سعود في أراضيهم هم، وبعد ذلك بنصف قرن قامت الدولة السعودية الوهابية بإعادة تشكيل نفسها من خلال عملية مشابهة من الغزو القبلي بدأت باحتلال الرياض عام 1902, واستمر عبد العزيز آل سعود بن سعود في احتلال البلدة تلو البلدة انتهاء بالطائف ومكة في عام 1924, ثم المدينة وجدة في عام  1925, وأعلن عن قيام الدولة الموحدة الجديدة تحت اسم المملكة العربية السعودية في عام 1932, وهكذا جرت السيطرة على هذه البلدات وعلى طريق التجارة والحج التي تربطها معاً، وتصلها كذلك بالواحات الزراعية الغربية التي كانت ستغدو من غنائم الفتوحات الاعتيادية قاعدة اقتصادية معقولة ومصدراً لفائض اقتصادي في صالح الدولة الناشئة.. ومع ذلك فلا غنائم الفتح ولا الفائض المستخلص من الزراعة استطاعا بمفردهما دعم دولة ما في بلاد العرب، فالمدينة على الدوام هي العامل الذي يغري البداوة بالانضمام إلى الدولة، وقد تحقق ذلك عن طريق إقامة زعامة قبلية واحدة فوق الجميع، وفرض نظام جديد عن طريق فرض أنواع من الضرائب التجارية على أساس مركزي، والحيلولة دون نشوب قتال (الغزو) بين القبائل، وقد وفرت المدن ورجال القبائل الدعم للزعامة، والمصدر الرئيسي للفائض الاقتصادي، وقد أدى التحول من القبيلة إلى الدولة إلى تضخيم دور الزعامة، وصار الشيوخ بموجبها يتصرفون على نحو متزايد بصفة وسطاء بين قبائلهم (المتشظية) من جانب، والدولة (القبيلة المركزية) من جانب آخر، وهكذا نرى أن التشكل الأصلي للدولة السعودية كان في الأساس شأناً داخلياً في نموه، فقد قام على توسيع واحة الدرعية على يد زعماء آل سعود لتشمل أراضي بلاد العرب، وبضمن ذلك الحجاز، خلال الفترة ما بين 1765 و1803, وقد تحدى المصريون هذا التوسع عدة مرات، غير أنه خضع في ما بعد لعملية إعادة تشكيل خلال العقود الأولى من القرن العشرين، بمساعدة البريطانيين هذه المرة، ومنذ ذلك الوقت لم يعد الكيان السعودي مستقلاً استقلالاً تاماً، إذ كانت المساعدات المالية والقوات البريطانية ترسل إلى الملك السعودي الذي ظل على الدوام يسعى من أجل الحصول على مساحة أوسع من دائرة الاستقلال، إلى أن جاء بالأمريكيين بعد ذلك في مسعى للبحث عن النفط، ولتعزيز دورهم لجأ السعوديون إلى أساليب متنوعة لإبرام التحالف القبلي من خلال المصاهرة بغية توسيع القاعدة الاجتماعية للعصبة الحاكمة، كما حولوا عدداً من المجموعات البدوية إلى قوات عسكرية تحت إمرتهم. وفي محاولة للنأي عن البريطانيين بأقصى ما يمكن، اختار عبد العزيز بن سعود منح أكبر الامتيازات النفطية للأمريكيين الذين شكّل معهم شركة (أرامكو) في عام 1933, علاوة على منحهم تسهيلات عسكرية هامة في الظهران وأماكن أخرى..

ولقد حكمت (أرامكو) البلاد واقعياً على امتداد عدد كبير من السنين، وفرضت عليها نمطاً عميق الأثر من التبعية الاقتصادية استمرت في سنوات فورة النفط، غير أن الإدارة في المملكة العربية السعودية بقيت شخصائية، على الرغم من تأسيس بعض الوزارات كوزارة المالية والخارجية عام 1932 وحافظة للنقود حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي، إذ ازدادد عدد الوزارات لاحقاً وجرى تشكيل مجلس للوزراء عام 1953, واتساع عمليات استخراج النفط في أواخر الأربعينيات، في محاولة لتعميم قوة الشخصية لابن سعود، بيد أن الطبيعة العائلية للنخبة الحاكمة بقيت واضحة جداً. إذ تسيطر العائلة الحاكمة دائماً على أهم الوزارات بالاستناد إلى التسلسل العائلي الداخلي، وقربهم من ابن سعود، مع الميل إلى إبقاء الأجهزة الإدارية المركزية والمناطقية بشكل خاص أن تكون ذات طبيعة خاصة ينظر إليها على أنها إقطاعات طبيعية لفروع معينة من العائلة الحاكمة..

وهكذا يمكن للمرء أن يرى أن القرابة والبيروقراطية كانتا تستعملان في عملية التكامل السعودية الرئيسية التي كانت تسيطر على جميع الوظائف والوزارات والمناطق الاستراتيجية كوزارات الداخلية والدفاع والخارجية، وبمعنى من المعاني فإن المجتمع السعودي قد توحد على يد الدولة، وبحسم الدولة فقط، غير أنه يبقى مجتمعاً قبلياً وعشائرياً، ويبدو أنه القرابة والنفط والدين قد اتحدت في سنوات فورة النفط لتكون فئات جديدة من رجال الأعمال والتكنوقراط قدمت من بين صفوف النخب القبلية التي تولت زمام القيادة التجارية والإدارية من المجموعات المتنفذة تقليدياً.

إن المملكة العربية السعودية منذ قيامها في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي تحكمها أعتق الأنظمة في المعمورة، لم تستطع الخروج من قبليتها، ولم تفكر في بناء الدولة الحديثة المبنية على أسس قانونية، وبقيت تُحكم وفق النظام القبلي العشائري، وعلى أساس مذهبي ديني وهابي متزمت، وبسبب احتوائها على المدينتين المقدستين في الإسلام، ولأهمية الحركة الوهابية فيها، كل هذا جعل من المملكة بالمفهوم العصري للدولة خارج التاريخ: لا دستور، ولا قوانين مدنية تستند إليها في بناء المؤسسات، ولا مشاركة شعبية، ولا حياة حزبية ونقابية، ولا مجلس تشريعي، ولا بناء قاعدة مادية اقتصادية تعتمد عليها كمورد غير الثروة النفطية، والقضاء فيها يستند إلى حكم الشريعة بقطع اليد والرأس، والمرأة فيها ممنوعة مثلاً من المشاركة في الحياة العامة، ومن قيادة السيارة، وسياستها الخارجية تقوم على نشر الوهابية وتبديد الثروة الوطنية، والتبعية الكاملة للسياسة الأمريكية التي تتآمر على الشعوب، وتنفيذ هذه السياسة بالوكالة، دون أن تتحمل الإدارة الأمريكية أية نفقة مادية أو بشرية، والعمل على تغيير الأنظمة عن طريق التدخل في شؤون الدول الداخلية ودعم الإرهاب وتمويله، وتمارس المملكة هذه السياسة بطريقة بدوية ثأرية متخلفة.

وبالرغم من الوعود الكثيرة بوضع الدولة على سكة التحديث منذ احتلال المسجد الملكي الكبير في عام 1979 من قبل المتطرفين بإيجاد قانون أساسي للحكم، وتشكيل مجلس شورى يختاره الملك، لكن تشكيله تأخر حتى عام 1993 بسبب محاولة الموازنة بين شتى القوى العشائرية والمناطقية. وقد تناقلت الصحف مؤخراً أخباراً عن إجراء انتخابات برلمانية وبلدية، ومنح المرأة حق المشاركة للمرة الأولى في التصويت والترشيح في الانتخابات المحلية في كانون الأول القادم، إلا أن الحكومة وضعت قيوداً إلى حد أنه لا يمكن للمرشحات التحدث مع الذكور إلا عبر الفيديو.

ومع أن مفهوم الدولة أوربي المنشأ تطور خلال قرنين من الزمن، وقُدّم إلى كل بلدان العالم وأصبح ذا صفة عالمية، نرى أن المملكة العربية السعودية مازالت خارج السياق التاريخي، ويطغى فيها حتى الآن مفهوم القبيلة كنظام على مفهوم الدولة العصري.


****************

 استند هذا البحث على:

– فاسيلييف- تاريخ العربية السعودية- دار التقدم 1986.

– تضخيم الدولة العربية- نزيه ن. الأيوبي، ترجمة أحمد حسين، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة أولى ،2010 بيروت.

العدد 1105 - 01/5/2024